تبدل الكراسي العلميَّة.. الوعود تختفي بعد النور

في الجامعات العريقة، تُولد الكراسي العلمية من رحم الحاجة، لا من نَزَق الرغبة. هي ليست مقاعد للجلوس، بل منابر للفكر، ومراصد للبحث، وجسور بين الجامعات والمجتمع، تُشيد على أكتاف العلماء، وتُغذى بعقول الباحثين، وتُروى بأموال المحسنين. هي أشبه بالواحات العلمية التي تنبت فكرًا، وتثمر معرفةً، وتطاول بحضورها الزمن.
سباق الجامعات نحو إنشاء كراسي علمية
شهدنا في سنوات مضت، سباقاً محموماً بين الجامعات؛ للإعلان عن تأسيس "كرسي علمي"، بلغةٍ احتفاليةٍ لا تنقصها الأضواء، ولا الكاميرات. وكم من مؤتمرٍ صحفي صُفّت فيه المايكروفونات، لا لتقديم بحثٍ علمي رصين، بل للإعلان عن اتفاقية شراكة، تنتهي بعدسة مصور، وتُختتم بصورة على منصات التواصل، ثم يُطوى الملف ويُعلق الكرسي على جدار النسيان!
تحوّل الكراسي العلمية إلى وسيلة وجاهة
تحوَّل الكرسي العلمي في بعض جامعاتنا إلى وسيلة وجاهة، يُستقطب بها رجال الأعمال، لا إيمانًا برسالة المعرفة، بل سعيًا إلى سطرٍ في نشرة، أو خبرٍ في قناة، أو لوحةٍ على مدخل الكلية، مكتوب عليها اسم المتبرع بخطٍّ عريضٍ، وبعد سنتين يتساءل منسوبو الجامعة والمجتمع: أين تلك الكراسي التي وعدنا بها؟ أين أبحاثها؟ أين نتائجها؟ أين المقرّرات التي طورتها؟ أين الطلبة الذين استفادوا منها؟
أهمية إعادة الاعتبار للكراسي العلمية
الكراسي العلمية ليست صناديق استثمار، ولا مبادرات علاقات عامة. إنها مشروع طويل النفس، عميق الأثر، يحتاج إلى رؤية، وإرادة، وشخصيات علمية تملك القدرة على إدارة المعرفة، لا تسويق الألقاب. يحتاج إلى دعم لا يُقاس بالملايين، بل يُقاس بثمرة تلك الملايين: كتاب، أو مشروع تطبيقي، أو تلميذ صار علامة فارقة في مجاله.
إعادة الاعتبار للكراسي العلمية
إن إعادة الاعتبار للكراسي العلمية تبدأ من إعادة تعريفها بأن تكون منبرًا لا مظهرًا، أن تتصل بالواقع، لا تتغذى على الخطابات والبرستيج، أن تنبت في تربة الحاجة، لا في أحواض المجاملة.
نعلم أن بعض الكراسي العلمية في الخارج قد غيّرت وجه التاريخ، بينما نحن لا نزال نكتب "بيان تأسيس"، ثم نصمت.
كرسي واحد في جامعة عالمية، أنتج مدرسة فكرية كاملة، وآخر أنقذ حياة البشر، ونحن نتبارى في كثرتها، ولا نرى مخرجاتها، ولا نعلم هل ما زالت قائمة، أم طواها النسيان.
صحيح أن هناك كراسي ناجحة وفاعلة، لكنها قليلة ومحدودة الإمكانات والطموح.