الشرق "الإسرائيلى" الجديد

مصر تايمز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ
مقالات الرأى

السبت 14/ديسمبر/2024 - 07:57 ص

قبل نحو عشرين سنة، زرت مدينة درعا مهد الثورة السورية، كنت وقتها فى دمشق، مدعوا بصفتى الصحفية لمتابعة أعمال موتمر نقابى عربى، وكان طبيعيا أن أتواصل مع الأحباب فى حزب الاتحاد الاشتراكى العربى الديمقراطى، وهى الجماعة الناصرية الرئيسية فى سوريا، التى أسسها الراحل المرموق "د.جمال الأتاسى"، وكان قياديا بارزا فى "حزب البعث"، انشق عنه منحازا إلى خط "جمال عبد الناصر" فى صراعه مع "البعث" عقب نكبة انفصال سوريا، ونهاية تجربة "الجمهورية العربية المتحدة" مع مصر، وبعد استيلاء "حافظ الأسد" على السلطة فيما أسماه "الحركة التصحيحية" عام 1970، زادت ضراوة اختلاف "الأتاسى" مع "الأسد" بعد وئام عابر، وخرج "الأتاسى" وجماعته مما كان يسمى "الجبهة الوطنية التقدمية" وقتها ، وحل كثير من الناصريين ضيوفا على سجون "الأسد الأب" و"الأسد الإبن" من بعده ، وأصبح "حزب الاتحاد الاشتراكى" أقرب إلى الحزب السرى رغم سابقة الترخيص بوجوده ، ودأب "الأتاسى" على توحيد جهود المعارضة اليسارية بالذات ، وأقام "الجبهة الوطنية الديمقراطية" المعارضة ، التى صارت نواة لهيئة "التنسيق الوطنى" بعد ثورة سوريا أواسط مارس 2011 ، التى انطلقت أولا من "درعا" التى زرتها قبلها بسنوات ، كانت الزيارة نوعا من المخاطرة ، فقد التقيت بعدد من القياديين الناصريين فى منزل أحدهم بدمشق ، وفوجئت بدعوة أحدهم للذهاب إلى "درعا" ، وكانت المسافة قريبة لا تستغرق بالسيارة سوى أقل من نصف ساعة ، لكنها امتدت إلى أكثر من ساعة بكثير ، فقد لجأ مرافقى ومضيفى إلى طرق جانبية بعيدة عن الحواجز الأمنية المنتشرة بكثافة ، وإلى أن وصلت منزل قيادى ناصرى فى منطقة "درعا المحطة" ، وعلى دعوة الغداء الكريم وقبلها وبعدها ، دار حوار طويل مع قياديين ونشطاء سوريين ، وكان مجرى الحوار الرئيسى حول قضية التغيير والثورة فى العالم العربى ، كنت وقتها قياديا مؤسسا فى حركة "كفاية" ، وأول متحدث رسمى باسمها ، ثم منسقها العام المنتخب فيما بعد إلى وقت قيام ثورة 25 يناير 2011 فى مصر ، وكانت "كفاية" اشتهرت بشعارها المختصر (لا للتمديد . لا للتوريث) ، وكنت فى رئاسة تحرير جريدة "العربى" المصرية ، واستعد للانتقال إلى رئاسة تحرير جريدة "الكرامة" ، وكنا فى جريدة "العربى" أول المنتقدين بحدة لما جرى فى سوريا عقب وفاة "الأسد الأب" ، والمسارعة إلى تنصيب إبنه "بشار" ، وتغيير الدستور السورى فى كوميديا سوداء استغرقت ربع ساعة لا غير ، ونزلت بسن الترشح للرئاسة ليوافق سن الإبن الموعود ، الذى كان وقتها فى الرابعة والثلاثين من عمره ، وكان مانشيت "العربى" وقتها قاطعا "نرفض توريث الجمهوريات" ، كان الرفض بمناسبة ما جرى فى سوريا ، وكانت العين طبعا على ما كان يجرى فى مصر ، وفيما بعد دعيت من فضائية "الجزيرة" للمشاركة فى حلقة من برنامجها الأشهر ، جرى بثها من دمشق نفسها ، وذكرت كوميديا الربع ساعة السوداء ، وأبدى مقدم البرنامج السورى "د. فيصل القاسم" هلعه على مصيرى ، لولا أن الله سلم ، وخرجت من دمشق بسلام ، تماما كما خرجت من "درعا" قبلها بسنوات .

 

الشرق "الإسرائيلى" الجديد 

وقد تكون مقدمة المقال اليوم ، طالت بأكثر مما ينبغى ويسوغ ، وإن كانت فى ظنى ضرورية لتفهم ما يلى من سطور ، فقد كنت من أعلى الأصوات تأييدا للثورة فى سوريا كما فى غيرها ، وعبرت عن رأيى مرارا فى لقاءات تليفزيونية ، وفى مقالات نشر أغلبها فى هذا المكان نفسه ، وكنت أراقب ما يجرى بانتظام مشوب بالقلق ، فقد استمرت الثورة شعبية وسلمية غالبا فى شهورها التسعة الأولى ، ثم أرادت أغلب الأطراف المتصارعة ، أن تنقلب على سلمية الثورة ، وسارعت "جماعة بشار" إلى الهروب للأمام ، وتحولت الثورة فى سوريا إلى ثورة على سوريا ، ودارت فصول المحنة السورية الأحدث ، وتطورت حوادثها الدامية إلى حرب طائفية كافرة ، وإلى تدخلات أجنبية وإرهابية بالجملة ، دمرت أغلب مدن سوريا الحبيبة ، وقتلت نحو 700 ألف سورى ، وشردت نحو عشرة ملايين ، وكان القتلة من نحو أربعين جنسية بينها السورية للأسف ، ولم يرفض التدخل الأجنبى وعسكرة الثورة سوى "هيئة التنسيق الوطنى" المعارضة ، ثم توالت التطورات على نحو صار يعرفه الكافة ، ونجح التدخل الروسى الجوى فى تجميد الوضع لسنوات ، وحفظ وضع الرئيس السابق "بشار" فى ثلاجة قصره الرئاسى ، وتحويله إلى رئيس افتراضى ، ظل فى منصبه على نحو اصطناعى ، ومن دون أن تكون له سلطة واقعية حقيقية ، فقد كان الأمر بيد من أنقذه ظاهريا ، بينما كان "الجيش العربى السورى" يتحلل ويضمحل ويفقد همة القتال ودواعيه ، فقد قتل من الجيش وحده نحو مئة ألف فى حرب طاحنة ، كان "بشار" يملك ـ نظريا ـ فرصة تجنبها ، لو أنه أراح واستراح وتنحى من البداية ، وحفظ وحدة البلد وتماسك الجيش ، وسلامة التحول إلى انفتاح ديمقراطى مدروس ، بدلا من اعتياد التجارة بالشعارات القومية وبالمقاومة ، وعلى ظن أنها تنجيه من حساب مستحق ولو تأخر ، جاءت لحظته الحاسمة فى عشرة أيام لاهثة انتهت بهروبه لاجئا بليل إلى موسكو ، التى امتنعت عن التدخل الجدى لصالحه هذه المرة ، تماما كما امتنعت إيران وجماعاتها وذهبت .
 

وقد يرى البعض فى الخلاص من النفوذ الإيرانى مطلبا شعبيا غلابا ، وهذا صحيح تماما ، لكن المشكلة أن إيران ذهبت ، وجاءت "إسرائيل" بنفسها أو من وراء قناع إقليمى ، وقد فرحت لفرح قطاعات كبيرة من السوريين بزوال "جماعة بشار" الطائفية المجرمة البائسة ، لكن الانقباض سرعان ما طغى على دواعى الفرح ، فلا أحد يعرف مدار الحكام المفترضين الجدد ، وتواريخ بعضهم مثقلة بإرهاب مفزع ، ثم أن مراحل الانتقال ربما تطول وقد تتعثر ، وقد ننتظر لسنوات إلى أن تجرى انتخابات نزيهة ، يحكم بها الشعب السورى نفسه بنفسه ، والانتخابات ليست مجرد إجراءات ومظاهر صورية ، والديمقراطية لا تنمو ولا تنفع فى فراغ وطنى موحش ، وشرط الديمقراطية الصحيحة مرتبط بأولوية الاستقلال الوطنى ، ولم يكن حكم "بشار" ولا حكم أبيه حافظا لاستقلال وطنى حقيقى ، فوق ظلمه وسفكه للدماء بغير حساب ، ومن حق الشعب السورى أن يفرح ويستبشر مع زوال حكم الظالمين ، ولا أحد عاقل يبكى على ذهاب "بشار" ، فقد كان حكمه ذهب قبل ذهاب شخصه بعقد كامل ، وأول بديهيات حرية السوريين أن يعيشوا فى وطن حر ، فلا شعب حر فى أمة مستعبدة ولا فى وطن مستلب السيادة ، وفى صورة سوريا الراهنة مخاطر مرعبة ، فهيمنة وسيطرة الأجانب الإقليميين والدوليين منظورة ، قواعد لأمريكا فى الشرق وقواعد لروسيا فى الغرب ، وأعداد هائلة من الأجانب فى بنية المنظمات المسلحة ، إضافة لتحديات كبرى تنتظر الوضع الجديد ، فالسلطة ليست مجرد غلبة بتسلط السلاح ، والمخاوف من عودة إلى حروب داخلية لا تزال مخيمة ، فالقواعد الأمريكية لاتزال تحمى "قوات سوريا الديمقراطية " الكردية الإنفصالية ، والقواعد الروسية فى "حميميم" و"طرطوس" موجودة بالقرب من أنفاس "العلويين" المرتابين على الساحل السورى ، والنفوذ والسلاح التركى مسيطر من الشمال إلى "دمشق" ، ونذر تفتيت سوريا حاضرة بكثافة ، ففى زمن الانتداب الفرنسى القديم ، كان المستعمر قبل رحيله يخطط لإنشاء خمسة كيانات منفصلة فى سوريا ، دولة للسنة وأخرى للعلويين وثالثة للدروز ورابعة للأكراد وجيب إضافى للمسيحيين والأقليات الأصغر ، وكانت سوريا على مدى أكثر من قرن مضى عرضة لدورات تقسيم ، فى البدء كانت سوريا الكبرى ، التى أعيد رسمها و"بلقنتها" باتفاق "سايكس ـ بيكو" بعد الحرب العالمية الأولى ، وأقيمت على أرضها التاريخية دول لبنان وفلسطين (حتى احتلالها صهيونيا) والأردن إضافة لسوريا الحالية ، وما من ضمان أكيد لوقف تفتيت سوريا ، خصوصا مع تدهور وانحطاط الوضع العربى العام ، ففى زمن "سايكس ـ بيكو" جرى تقسيم الأمة إلى أقطار ، ثم نتحول اليوم إلى مرحلة تقسيم الأقطار إلى أمم صغرى طائفية وعرقية وقبلية ، وسوريا ـ أكثر من غيرها ـ عرضة لتفتيت المفتت اليوم ، خصوصا مع كثافة التدخلات الدولية على أراضيها ، والرغبة الأمريكية الظاهرة فى الترويج لفيدراليات سورية متناحرة ، يزيد خطرها الماحق مع تدمير كيان الاحتلال للجيش السورى بالكامل برا وجوا وبحرا فى 50 ساعة غارات عقب خلع النظام ، والاستيلاء الخاطف على مناطق إضافية فى الجنوب السورى ، تعادل كامل مساحة لبنان ، ونزع سلاح دفاع الوطن السورى يلحقه استراتيجيا بكيان الاحتلال ، ويكشف حقيقة "الشرق الأوسط الجديد" ، الذى تدفع إليه أمريكا و"إسرائيل" ، وهو "الشرق الإسرائيلى الجديد" بامتياز ، الذى لا يترك للسوريين سوى فرص الاقتتال الداخلى بلا نهاية ، فاللهم احفظ سوريا .


[email protected]

ads
عبد الله السعيد
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق