لطالما كان دور الذكاء الاصطناعي في الكشف عن السرطان محل جدل ونقاش واسع في الأوساط الطبية والعلمية، ولكن تقدم دراسة حديثة تُعدّ هي الأكبر من نوعها حتى الآن، أدلة قوية على قدرة هذه التقنية على تحسين معدلات اكتشاف سرطان الثدي بنحو ملحوظ وتقليل عبء العمل على الأطباء.
تفاصيل الدراسة:
أجرى فريق من الباحثين بقيادة الدكتور ألكسندر كاتالينيك من جامعة لوبيك في ألمانيا، بالتعاون مع نحو 200 أخصائي أشعة معتمد، دراسة تهدف إلى تقييم فعالية نظام ذكاء اصطناعي مدرب على تحليل صور الثدي الشعاعية (الماموجرام) للكشف عن علامات سرطان الثدي.
وشملت الدراسة تحليل صور 461,818 امرأة في 12 مركزًا لفحص سرطان الثدي في ألمانيا خلال المدة الممتدة من يوليو 2021 إلى فبراير 2023، وتميزت هذه الدراسة بتصميمها الذي سمح لكل أخصائي أشعة بحرية اختيار استخدام نظام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة في عمله أم الاكتفاء بالتقييم البشري وحده.
ونتيجة لهذا التصميم، خضعت 260,739 مريضة لفحص مزدوج، إذ قُيمت الصور بواسطة كل من أخصائي الأشعة ونظام الذكاء الاصطناعي، بينما خضعت 201,079 مريضة للفحص بواسطة أخصائي الأشعة فقط، وقد سمح هذا التقسيم بمقارنة مباشرة بين أداء أخصائيي الأشعة بمساعدة الذكاء الاصطناعي وأدائهم بدونه.
نتائج مبهرة تظهر تفوق الذكاء الاصطناعي:
أظهرت نتائج الدراسة تفوقًا واضحًا للذكاء الاصطناعي في اكتشاف سرطان الثدي، فقد نجح أخصائيو الأشعة الذين استخدموا الذكاء الاصطناعي في اكتشاف سرطان الثدي بمعدل يبلغ 6.7 حالات لكل 1000 فحص، وهو ما يمثل زيادة بنسبة قدرها 17.6% مقارنة بمعدل يبلغ 5.7 حالات لكل 1000 فحص في المجموعة التي اعتمدت على التقييم البشري وحده، ويشير ذلك إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي ساهم في زيادة عدد الحالات المكتشفة.
بالإضافة إلى ذلك، عندما خضعت النساء لإجراء خزعات بعد تشخيص مشتبه به بالسرطان، زادت احتمالية العثور على خلايا سرطانية في الخزعات بنسبة بلغت 64.5% في المجموعة التي اُستخدم فيها الذكاء الاصطناعي، مقارنة بنسبة بلغت 59.2% في المجموعة التي لم يُستخدم فيها الذكاء الاصطناعي، مما يدل على أن استخدام الذكاء الاصطناعي ساهم أيضًا في تحسين دقة التشخيص وتحديد الحالات التي تستدعي إجراء خزعة بنحو أدق.
وقال الدكتور كاتالينيك: “لقد كان مستوى التحسن الذي أظهره الذكاء الاصطناعي في الكشف عن سرطان الثدي إيجابيًا للغاية وتجاوز توقعاتنا، لذلك نستطيع الآن إثبات أن الذكاء الاصطناعي يحسّن بنحو كبير معدل اكتشاف السرطان في فحوصات سرطان الثدي”.
كما علّق ستيفان بونك، ممثل شركة (Vara) للذكاء الاصطناعي، التي شاركت أيضًا في الدراسة، قائلًا: “كان الهدف هو إثبات عدم وجود قصور في أداء الذكاء الاصطناعي مقارنة بأخصائيي الأشعة، لأن إذا تمكنا من إثبات أن الذكاء الاصطناعي لا يقل كفاءة عن أخصائيي الأشعة، فسيكون هذا سيناريو واعدًا لتخفيف عبء العمل عليهم، ولكننا فوجئنا بقدرتنا على إظهار تفوقه”.
مخاوف حول تطبيق الذكاء الاصطناعي في التشخيص:
أثارت مسألة الإفراط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي قلق بعض المتخصصين والباحثين، لعدة أسباب أهمها:
- احتمالية تفويت بعض العلامات المرضية: يخشى المتخصصون والباحثون من أن الاعتماد الكامل على أنظمة الذكاء الاصطناعي، خاصة في المراحل الأولى للتطبيق، قد يؤدي إلى إغفال بعض العلامات الدقيقة التي قد يلاحظها الطبيب ذو الخبرة، ويصبح هذا الخطر أكثر أهمية في الحالات النادرة أو المعقدة التي قد لا تكون مضمنة بنحو كافٍ في بيانات التدريب الخاصة بأنظمة الذكاء الاصطناعي.
- إنشاء نظام علاجي ثنائي المسار: هناك تخوف من أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج إلى ظهور نظامين مختلفين للرعاية الصحية، الأول: نظام يعتمد كليًا على التكنولوجيا ويكون متاحًا على نطاق واسع، والثاني: نظام يركز في التفاعل البشري المباشر مع الأطباء ذوي الخبرة، الذي قد يصبح حكرًا على من يستطيعون تحمل تكلفته، وقد يؤدي ذلك إلى تفاقم التفاوت في الحصول على الرعاية الصحية الجيدة.
وفي سياق الدراسة ظهرت بعض الأدلة التي تشير إلى أن أخصائيي الأشعة قد قضوا وقتًا أقل في تحليل صور الماموجرام التي صنفها نظام الذكاء الاصطناعي على أنها طبيعية (أي من غير المرجح وجود سرطان)، فقد بلغ متوسط وقت مراجعة هذه الصور 16 ثانية فقط، مقارنة بمتوسط بلغ 30 ثانية للصور التي لم يتمكن نظام الذكاء الاصطناعي من تصنيفها بشكل قاطع.
ويثير هذا الاختلاف في وقت المراجعة تساؤلات حول مدى دقة المراجعة البشرية في الحالات التي يشير فيها الذكاء الاصطناعي إلى عدم وجود مشكلة، هل يؤدي هذا التوفير في الوقت إلى زيادة احتمالية تفويت بعض الحالات؟
مع ذلك، لاقت هذه النتائج الأخيرة ترحيبًا من المتخصصين في مجال النشر الآمن للذكاء الاصطناعي في الطب، إذ يرى هؤلاء المتخصصون أن استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة منظمة وفي ظل وجود مراقبة جيدة، ومع الحفاظ على دور الطبيب البشري كمرجع نهائي، يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة التشخيص وتقليل الأخطاء البشرية، ويشددون على أهمية إجراء المزيد من الدراسات الواقعية لتقييم فعالية استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات الطبية.
فقد علق بن جلوكر من إمبريال كوليدج لندن على نتائج الدراسة، قائلًا: “تقدم هذه الدراسة مزيدًا من الأدلة على فوائد الذكاء الاصطناعي في فحوصات الثدي، ويجب أن تكون بمنزلة دعوة عاجلة لصنّاع السياسات لتسريع تبني هذه التقنية، إذ تؤكد النتائج ما رأيناه مرارًا وتكرارًا في دراسات سابقة، ومع إستراتيجية دمج صحيحة، يكون استخدام الذكاء الاصطناعي آمنًا وفعالًا”.
كما أثنى جلوكر على طريقة تصميم الدراسة، إذ سمحت لأخصائيي الأشعة باتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن توقيت وكيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في عملهم، ويرى أن هذا النهج يُعدّ مهمًا للغاية.
كما أعرب عن أمله في رؤية المزيد من الاختبارات للذكاء الاصطناعي تجرى بطريقة مماثلة، قائلًا: “لا يمكننا تقييم ذلك بسهولة في المختبر أو من خلال المحاكاة، بل نحتاج بدلًا من ذلك إلى التعلم من الخبرة الواقعية، فالتقنية جاهزة، ونحن الآن بحاجة إلى وضع السياسات المناسبة لتنظيم استخدامها”.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
0 تعليق