رحلة إلى مدينة بلا أحزان

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حينما شرعت في تحضير رسائل وتقارير اجتماعية حديثة، ساعيًا إلى مشاركتها مع صديقاتي وأصدقائي داخل وخارج الوطن عبر صفحتي، فلأنها تجربة عشتها بلذة ملتاعة في تجارب سابقة، سواء خلال زيارتي لدولة قطر عام 2014، أو تلك الرحلة المميزة إلى جمهورية مصر العربية زمن كورونا اللعين عام 2021، وصولاً إلى رحلة عمرة لنفسي إلى المملكة العربية السعودية في نونبر 2022. لذلك، انتابني شعور أن أضم إليها في كل بداية نبذة مقتضبة عن هذه المدينة الرائعة التي أزورها لأول مرة، وسوف تحتضنني بشغف جميل خلال فترة زمنية ليست بالقصيرة. فأسقط بذلك عصفورين بحجر؛ أحقق رغبتي في لذة الاستقصاء الثقافي والاجتماعي خارج حدود الوطن من جهة، وأعمل على إرضاء جزء من فضول أصدقائي وصديقاتي محبي المعلومة وعشاق الأسفار والرحلات من جهة ثانية.

إنها مدينة صغيرة وهادئة، بلا أحزان، بلا تريبورتورات، ولا “جيليات صفراء”. تعيش زمنها الفائق الرقمي خارج نطاق الاحتكاكات والمماحكات، وشغب الأحياء، وزعامة الفتوات ذوات التسريحات الشيطانية. مدينة تدعى روزمير (ROSMÈRE)، حمامة خرافية حطت على الساحل الشمالي من بحيرة الألف جزيرة (Rivière des Mille Îles) ضمن النفوذ الترابي لبلدية مقاطعة إقليم تيريز دي بلانفيل، المثبتة في الخاصرة الغربية لمونتريال المحروسة. أو لنقل تجمع حضري مدني من القرون القادمة، بلا متشردين، ولا لاجئين، بلا جوعى أو عطش. فقط بإيقاع حياة آمنة مطمئنة تحف بها الأحلام، ويعمل الذكاء الاصطناعي بنجاعة على تحقيق وتفعيل وبلورة معظمها على أرض الواقع.

مدينة “روزمير”، كغيرها من المدن الذكية في العالم. تحضرني هنا على سبيل التنكيت ضجة حول اعتبار فاس مدينة ذكية! مدينة تباشر أشغالها وتفتح أبوابها، وتلبي مختلف حاجياتها بالأوامر والتعليمات الرقمية. معظم معالم الحياة اليومية يتم مباشرتها وإنجازها بواسطة الرموز والشفرات والأكواد. فهي صمامات أمان وطوق نجاة من جحيم الحياة الماضية. إنه ذلك الاستثمار المجنون لكل ما أنتجه العقل التكنولوجي على امتداد القفزة الرقمية الخرافية لإسعاد البشر. فكل تفاصيل الحياة هنا، لا حاجة فيها للعضلات إلا لمتعة عابرة. ثمة رمز يفكك، وكود يفعل، يوقد الكهرباء، يفتح الأبواب ويغلقها، يشغل الموسيقى، ويحرس الغابات والمدارات، يراقب الممرات والشوارع، ويضبط مواعيد الزيارات، ويرتب تفاصيل اليومي بدقة تشق على الخيال. الكل يمشي إلى مصيره بسعة الورد، وطموحات جذلى لا تحدها الأيام.

ويرجع المتخصصون اختلاف مستوى توظيف واستخدام التكنولوجيا الذكية بين المدن والضواحي في كندا إلى تنوع الجهود والمبادرات في مجال الذكاء الاصطناعي بين المدن والمناطق الريفية. الأكثر استخدامًا للتكنولوجيا الذكية في الخدمات الاجتماعية هو المجال الحضري، مثل المواصلات الذكية، تدوير النفايات، وأنظمة الحماية والأمان العام.

مدينة روزمير (ROSMÈRE)، هي تجمع بشري لا يتجاوز عمره 75 سنة. هنا الأقدمية في التاريخ والوجود لا تصنع التقدم بالضرورة. هناك مدن عربية عمرها يفوق 14 قرنًا، وما يزال البؤس وضنك العيش يقطنها حتى الآن. يرجع تاريخ تأسيس المدينة كتجمع للحياة المدنية العصرية إلى فاتح يناير من عام 1974 في مقاطعة كيبيك الكندية الناطقة بالفرنسية، متربعة على مساحة تقدر بـ 10.7723 كم²، فيما يبلغ عدد سكان روزمير 14,173 نسمة حسب إحصاء سنة 2023. وهي بذلك تحتل المرتبة 267 بين مدن كندا حسب عدد السكان، والمرتبة رقم 70 في المقاطعة، في حين لا تتجاوز نسبة النمو الديموغرافي 5.8%.

الحقيقة أن هناك الكثير مما يمكن الوثوق به إلى درجة اليقين في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة المثبتة في خاصرة المحروسة مونتريال العاصمة الاقتصادية، كما في عموم مناطق الدولة الكندية. وليسمح لي قراء الصفحة أن أقدم بضعًا من الأمثلة الصارخة عن ارتفاع منسوب الثقة والوثوقية بالعلم في إدارة الحياة اليومية لدى الناس في هذه النقطة المستنيرة من كوكب الأرض. خذ مثلاً: عندما تعلن الأرصاد الجوية أن سماء “روزمير” ستكون ممطرة حوالي الساعة الثانية زوالاً، فهي لا تنجم، أو تقرأ الفنجان، أو تمارس لعبة الكذب والبروباغندا الإعلامية، وسرد احتمالات الرياح من شرقية إلى غربية إلى معتدلة والله أعلم؛ لأن سماء المدينة ستمطر بالقدر والسعة بحلول الموعد بالدقيقة والثانية، مثل حكم مباراة دولية محترف، بمجرد أن تدخل الكرة الشباك، يرفع الراية في حالة تأهب عسكرية، مشيرًا بيده إلى وسط الميدان، معلنًا شرعية الإصابة. أما حين تؤشر اللوحة الإلكترونية داخل محطة القطار أو في إحدى محطات وقوف الحافلات أو محطات الميترو، أن الحافلة رقم 289SB المتوجهة من سان تيريز إلى مدينة لافال ستدخل المحطة رقم 12345Q على الساعة الثانية بعد الزوال، فذلك لا يعني سوى شيء واحد: الساعة الثانية بعد الزوال. فعليك ألا تجعل الشك يتسرب إليك ولو لثانية واحدة. فما يكاد عداد التيونر الإلكتروني يصل إلى الدقيقة 59 بعد الواحدة حتى تدهشك الحافلة الأنيقة وهي تذرع الطريق نحوك، هادئة مطمئنة، مع حفظ الأعذار القاهرة طبعًا.

مثال آخر يتعلق بالدقة في تحديد مواعيد استلام وتسلم الطلبيات والتسوق عبر الإنترنت. فالأمر هنا تحديدًا فاق كل التوقعات، حيث لا مجال للعبث. نفس الأمر بالنسبة لمحطات الوقوف في المراكز والفضاءات، فلا أحد سيرشدك إلى الوقوف بدقة إلكترونية عالية التوقع والحماية سوى الجهاز المثبت في سيارتك. فإذا سألت أليكسا مثلاً: هل ستمطر اليوم سماء روزمير؟ تجيبك على الفور: “تمطر الآن، وستتوقف بعد 15 دقيقة”. والأمثلة كثيرة في هذا الصدد ويطول حصرها. ثمة دقة علمية ومنهج عمل في ممارسة الحياة اليومية، لا هامش فيه للعبث، منهج كندي مشهود له عالميًا بكفاءة حسن السيرة والسلوك.

أما بخصوص الجالية العربية هنا في روزمير، وحسب مصادر محلية، فهي محدودة جدًا، وأغلبها يرتاد المقاهي الأنيقة المزودة بالإنترنت مجانًا، بجودة اتصال وسرعة عالية، لا سيما مقهى “ديبو” (Depot) على ناصية الطريق الوطنية 117، وجلهم من شمال إفريقيا، مغاربة، جزائريون، وتونسيون.

تتوفر روزمير على كافة المرافق الضرورية للحياة، مزودة بأطر مؤهلة وخدمات سلسة، سريعة، وأكثر نجاعة وفاعلية. توجد محطة سكة حديد نشطة على مدار الوقت تديرها “Exo” في روزمير كيبيك، كندا، ويخدمها خط Saint-Jérôme، وتضم 382 مكانًا لوقوف السيارات. وتعتبر مدينة روزمير من الوجهات السياحية الجميلة التي تؤكد معظم الوصلات السياحية على إمكانية زيارتها في كندا، حيث توفر العديد من الفرص الحقيقية للاسترخاء والتمتع بالطبيعة الخلابة. كما يمكن للزوار الاستمتاع بالتنزه في الحدائق الفسيحة المضمخة بعبير الطبيعة، بمسارات المشي الجذابة، والجلوس لبعض الوقت في البساتين المزهرة بألوان قرمزية مبهجة على الدوام.

هندسة مدينة روزمير وطرازها العمراني غاية في الإبداع والجمال. يزيدها روعة الهدوء المحفز على السكينة والاطمئنان والإبداع. تشتهر المدينة بمظهرها الأخضر البهيج الذي يمنح الانشراح والتحفيز على الخلق. الطبيعة هنا ملهمة بسبب الكثافة العالية للأشجار، وانتشار الاخضرار بفضل التربية والثقافة التي تحث على تقديس الطبيعة والاعتناء الدائم بالبيئة. معظم المنازل والدور السكنية لها جاذبية خاصة ومميزة بهندستها، وراقية بمعمارها الغريغوري الروماني المتفرد. إن التنوع في الهندسة العمرانية واتساع مساحة الخلق ومهارة الإبداع يجعلها قابلة للتجديد على الدوام إلى الأجمل، ما يحولها إلى منازل وإقامات سكنية مميزة بطابعها الفريد. إنها منطقة سكنية بامتياز

، كونها لا تضم معامل ولا تتوفر على صناعات ثقيلة. كما يعتبر “Boulevard Curé-Labelle”، الشريان التجاري الرئيسي للمدينة، الذي تؤثثه على الجانبين المصحات، والعيادات الطبية والتجميلية، الحانات والمقاهي، المحلات التجارية، ومراكز التسوق الصغرى والمتوسطة، وأكبرها “Place Rosemère”.

وما دام الشيء بالشيء يذكر، من الطبيعي أن يعرف الناس أن رجلاً يدعى ألكسندر بيلودو (Alexandre Bilodeau)، أصبح أول رياضي يفوز بميدالية ذهبية أولمبية على الأراضي الكندية، وهو من أبناء روزمير. وكان قد فاز بسباق رجالي في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2010 في فانكوفر، كولومبيا البريطانية.

في روزمير الهادئة صيفًا، الباردة شتاءً، يحلو التسوق ويروق التجول في شوارعها الأنيقة وحاراتها الظليلة “Chemin de la Grande Côte”، مرورًا بمطعم “صوفيا” على الطريق الوطنية 117، لا سيما أوائل الخريف، حين تغمر أوراق الأشجار المتساقطة ذات اللون الأرجواني المذهب الذهبي كل الجنبات. وحين تتساقط على الأرض، تشكل لوحة طبيعية خلابة غاية في الخلق والإبداع. وكلما تقدمت خطوة في شارع ما، يجذبني الشوق لإعادة النظر وتخزين اللحظة بأكبر قدر ممكن في الذاكرة، كما لو أنها ستتغير بمجرد إزاحة عيني عنها، أو سيحين موعد المغادرة دون أن تتاح لي الفرصة للنظر ثانية. وكلما أعدت النظر، أنشرح حتى يرتفع منسوب السكينة داخلي. تتكئ روزمير على الضفة اليمنى لنهر سان لوران الذي يشكل جزءًا من منظومة الطريق البحري الذي يصل بين المحيط الأطلسي شرقًا والبحيرات العظمى غربًا. ينبع نهر سان لورانس من بحيرة أونتاريو في كندا، ويمتد لمسافة تقرب من 3,058 كيلومترًا عبر عدة مناطق ومقاطعات في كندا والولايات المتحدة الأمريكية. وهو إلى ذلك شريان رئيسي للملاحة الاقتصادية، حيث ينقل نحو 45 مليون طن من البضائع سنويًا، ويدعم هذا الطريق المائي العديد من الموانئ الكندية مثل مونتريال وتورنتو وهاملتون، إضافة إلى مدن أمريكية، أهمها شيكاغو وديترويت وبوفالو وغيرها. وتدين هذه المدن بازدهارها التجاري والاقتصادي لهذا الطريق المائي الذي يربطها ليس فقط مع المحيط الأطلسي، بل مع جميع أرجاء العالم المختلفة.

“روزمير” بهذه الصفات ليست جميلة فحسب، لأن الجمال بمعناه الكوني يغمرها بفيض نوره بالكامل. كل ما يتحرك فوقها من تراب وحديد وخشب وبشر جميل. أزور روزمير لأول مرة خريف هذا العام، واكتشفت أنها من المناطق المحيطة بنهر سان لورانس، وأنها علاوة على ذلك وجهة سياحية رائعة. تتيح عبر الرحلات البحرية والأنشطة السياحية اكتشاف جمال هذا النهر الكبير والمناظر الطبيعية المحيطة به.

وخلال هذه الزيارة، أجهد كثيرًا عيناي في اكتشاف تفاصيل الحياة بها على نحو دقيق، مجتهدًا في التنقيب عن تنوع قيمها وثقافتها في المحافظة على اتساع مساحة الظلال مع الأشجار الكثيفة الدائمة الاخضرار وفضاءاتها الرحبة الشاسعة المبهجة. إنها عنوان كبير لحياة تحف بها السعادة والاطمئنان الوجودي بالمعنى الروحي للكلمة. والحقيقة أنني كزائر عاشق لهذه البقعة من القارة الأمريكية، لا أملك سوى إعلان الدهشة وترصيد الشغف الجميل، لا سيما وأنا أترقب قدوم “صوفيا” التي ستضيء أرجاء القلب ومحيطه القريب والبعيد. صوفيا المضيئة للبيت الروزميري العامر محبة وصفاء. ورغم تأخر معرفتي بأي مواطن من ساكنة المنطقة، وعدم إضافة أي أحد لقائمة الصداقة حتى اللحظة، باستثناء قاطني شارع هكتور الطويل (HECTOR) الملتف، والمنزل 154 العامر بالفرحة والسعادة القلبية، فإنني أبدو لنفسي في غاية السكينة والصفاء الداخلي.

هنا في روزمير ثمة مكتبة تدعى “مكتبة روزمير” (La Bibliothèque de Rosemère)، سأحاول استكشاف رفوفها، وفيما إذا كانت هناك تسرب لرائحة ما للأدب والثقافة العربية. وسأتوق بلا انقطاع إلى الاستمتاع بصوت المياه وهي تتدفق عبر النهر العظيم سان لوران إلى باقي أوردة العالم، بعد عبور “Rue Robert”، “Rue Rose Alima”، “Rue Skelten”، وصولاً إلى الضفة الغربية للنهر سيرًا على الأقدام. سأستكشف مذاق اليومي في الأسواق التجارية الكبرى والصغرى: “دولاراما”، “مترو”، “ماكسي”. وسأتردد على مقاهي المدينة بالتناوب طيلة مدة إقامتي هنا. سأنقب عن رائحة عربي مر من هنا. لقد مطرقونا عبر وصلات إشهارية لافتة بأن كندا بلد الفرص والتنوع الثقافي. لذلك، هاجر إليها العرب من كل القارات: من شمال إفريقيا، وآسيا، ومن الشرق الأوسط والخليج العربي، بحثًا عن أماكن طموحة للعمل والعيش الكريم، تساعدهم على بناء حياة ناجحة في مجتمع غني بالتعدد في بناء العلاقات الاجتماعية، بعيدًا عن العنصرية والتطرف. وشكلوا تجمعات متعددة الثقافات، وأسسوا جاليات وتكتلات اقتصادية واجتماعية نشطة في اختلافاتها، متوحدة في هويتها العربية الإسلامية في كافة المدن الكندية. وفقًا لتعداد السكان الكندي الأخير في عام 2021، يبلغ عدد الأشخاص الذين يتحدثون العربية في كندا حوالي 1.2 مليون نسمة، أي ما يقرب من 3.2% من إجمالي سكان كندا.

إن سكون الطبيعة في روزمير، لا سيما حين تقدم الحانات والمطاعم أطباقًا كلاسيكية في جو دافئ وأصيل، عنوان كبير للرفاهية والترويح عن النفس. لكن ألوان الخريف تضيف سحرًا فريدًا على الفضاءات، وتجعل من الاستمتاع بطبيعة المكان الخلابة والابتعاد عن الروتين اليومي فرصة أكثر من مثالية للمشي والسياحة. فلا شك أن المدينة تكشف عن روعتها طوال العام، لكنها تكون في ذروتها إبان فصل الخريف، وهي تأسر الزوار بمبانيها التاريخية الخالدة، المطعمة بسحر العالم القديم والحديث، بما في ذلك مبانيها التراثية، ومساحاتها الشاسعة والملونة كقطعة من الجنة. لكن الأهم من ذلك كله، أنني سرت على اقتناع تام بأهمية تبادل باقة الحب بمعناه الكوني مع كل من تصادفه في الطريق. فينحني أمامك بأدب، تاركًا لك فسحة العبور الشرفي. هنا الكل ساكن هادئ: الماء، الشجر، الحجر، ودنيا الناس. يتحدث “الروزميريون” بفرنسية معجونة بسرعة يشق معها الفهم. ومع ذلك، فإن الصفاء يجعلك تهز رأسك موافقًا على ما تفهمه وما لا تفهمه. هنا، لا شيء يؤذي عينيك، ولا رائحة تزكم أنفك. كل ما تصادفه سيحفزك دون أدنى شك على ولادة الأفكار، وإنتاج الخواطر والآراء المبتكرة، ونسج مساحة للتفاعل الخلاق وتدوير الرغبة الرحيمة بينهما. روزمير سيدة جميلة، أنيقة، رشيقة، عابرة في شارع أرستقراطي، تزرع البسمات بدون انقطاع، وتعبق الأمكنة وراءها تدريجيًا بعطر أبدي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق