نَحنُ نَقُصُّ عَليكَ... سرديّاتُ التّضْليلِ

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

فِي الأُوبيريتْ الشَّهيرةِ لفيروز “بَيَّاع الخَواتِمْ”، يُحذِّر الـمُخْتارُ كُلَّ الأهَالي مِن جَبَّارٍ عَتيٍّ يَتَربَّصُ بِالضّيعةِ ويهدِّدُ أَمنَها، اِسْمه راجِح. ولم يَكنْ هناك في حَقيقَةِ الأمرِ أيُّ راجحٍ ولا خوفَ كانَ يُهدّدُ أمنَ النّاسِ. كان سُكاّنُ الضّيعةِ في حاجةٍ إلى حكايةٍ تبعَثُ الطمأنينةَ في أنفُسِهم، فخلَقَ لهم المختارُ الحِكايةَ: “الأهالي بدُّهُمْ حْكاية وَنَا خْلقْتُلّم لـَحْكايَة”. لقد كان يُدركُ أنّ ذلك يُشكِّلُ شرطاً من شروطِ شرعيّةِ سُلطَتهِ. لم يَكُنِ الأمْرُ كذِبًا، كما قال، بل كان “خَبْريَّةَ والخبْريَّة شِعْريَّة”. إنّها جزءٌ من إوالياتِ الضّبطِ والتّوجيهِ النّاعمِ. يَتَعلَّق الأمرُ بِنَسْجِ محْكيَّاتٍ من الخيالِ أو الذّاكرةِ تَستثِيرُ اِنْفعالاتِ السّامعِ أو القارئِ وتَكُونُ هِي الدَّافعَ لِتقبُّل خِطابَاتٍ فِي الدِّين والسِّياسَةِ، أو تَكونُ هي الـمُحفِّزَ عندَه على الشِّرَاء. إنّ المحكيَّ في جميعِ الحالاتِ سبيلٌ أمثَلُ للتّماهي، فمِنْ مِيزاتِه أنّه يُغطّي على الفَواصِلِ بين الواقِعِ والتّخييلِ. إنّ المفهومَ يُجرِّدُ ويردُّ المتعدِّدَ إلى وحدتِه، أمّا القِصةُ فتَستدعي انتشارَ الحسيِّ في العينِ والوجدانِ.

ووفق ذلك عُدَّتِ الاستِعانةُ بالمحكِيِّ عصَبَ السْتوري تيلينغ كمَا تمَّ تداولُه فِي أُورُوبا وأمريكا مُنْذ تِسْعينيَّاتِ القرْنِ الماضي في مَجالاتِ التّسويقِ والإشْهارِ والسياسَةِ، فالمحكيُّ هو طريقتُه إلى وِجْدانِ المتَلقي. إنّها رؤيةٌ جديدةٌ للذّهابِ بآلياتِ التحكُّمِ إلى حدودِها القُصوى حيثُ يُصبحُ الإنسانُ طيّعاً في ذاكرتِه ومفْصولاً عن شرْطِ وجودِه في الرّاهنِ. ففي التّواصلِ الإنسانيِّ يَميلُ الناسُ في الغالبِ إلى ما يُثيرُ انفعالاتِهم لا إلى ما يُحرِّك آلياتِ العقلِ عندَهم. وبذلك تُصبحُ الحكايةُ عند الإشهاريِّ والسياسيِّ والداعيّةِ وسيلةً لبيعِ “مُنْتجٍ” سيَتحوّلُ عند المستهلِك إلى سبيلٍ للتّماهي مع العوالمِ التي تُبشّرُ بها الإرساليّةُ الدعائيّةُ في هذه المجالاتِ مجتمعةٍ.

وقد شكَّلَ هذا السْتوري في الإنجليزيّةِ “فنّاً للحكْيِ”، ولكنّه صُنِّفَ عند الفَرنسيّينَ ضمن “تواصلٍ جديدٍ مادتُه الحكاياتُ”. إنّه ما يُـمَكِّنُ الفاعلينَ فِي ميدانِ “التّواصلِ” بكلّ أشكالِه مِن شدِّ اِنتِباهِ المتلقِّي والتَّأثيرِ فِي مُعْتقداتِه وتَوجِيهِ سُلوكِهِ نحو غاياتٍ بعينِها. فالدّهماءُ تعيشُ بالصّورِ الحسيّةِ أكثرَ من اعتمادِها على التّفكيرِ العقليِّ. لذلك كان المحكيُّ أداةً مُثْلى لتوجيهِها والتحكُّمِ في أهوائِها. وقد يُنظرُ إلى ذلك باعتبارِه صَدىً لتلك الرَّغْبةِ القديمةِ التِي صاحبتْ الإنْسانَ في الأرضِ فِي سَرْدِ محْكيَّاتٍ حياتيّةٍ يُودِعُها خِبرتَه، أو في ابتكارِ أساطيرَ كانت هي نافذتَه للهروبِ من القلقِ الملازمِ لشَرْطهِ الواقعيِّ.

وبذلك شَكَّل هذا النمطُ الجديدُ في التأثيرِ مُنعطَفا كبيرًا فِي التَّواصلِ السِّياسيِّ والإشهاريِّ وفي كافةِ أشكالِ التّسويقِ، أطلقوا عليه: “المنعطفَ السّرديَّ”. لَقد أَصبَحتِ السّردياتُ تِقْنيَّةً بالغةَ الأهميَّةِ فِي صياغةِ الرّسائلِ وبناءِ الهوياتِ وبلورةِ البرامجِ وتَداوُلِ القيمِ السياسيّةِ والدينيّةِ. تَمّ ذلك كلُّه من أجلِ ضَبْطِ وتَوجِيهِ المواطنينِ والتَّحكُّمِ فِي آرائِهم وتكييفِها مع مشاريعِ السياسيِّ وغاياتِ الإشهاريِّ ووعظِ الدّعاةِ. لقد “أَصبَح هذا الأسلوبُ الدعائيُّ تِرْياقًا ضِدَّ كُلِّ داءٍ”. فنحنُ نَأتي إلى المعيشِ اليوميِّ من خلال ما تَقولُه الكثيرُ من المحكياتِ عن الفقْرِ والحاجَةِ والإحباطاتِ والآمالِ التي قد لا تَتحقّقُ أبداً. إنّ تَأثيرَ المحكيِّ أقوى بكثيرٍ مما يُمكنُ أنْ تقولَه مفاهيمُ صامتةٌ. إنّه يَعودُ بالنّاسِ إلى عالمِ معيشهِم من خلال سردِ قصّةٍ لا تَروي تفاصيلِ هذا المعيشِ بل تُوهمهُم بإمكانيّةِ السّمُو عليه. “إنّه بذلك يُنافِسُ الفكرَ المنطقيَّ وطُرقَه في تفكيكِ قضايا الوجودِ، بل قد يَحُلُّ، في نظرِ البعضِ، محلّ الوقائعِ ومحلّ البراهينِ العقليّةِ”.

وهذا معناه أنّ “الستوري تيلينغ يَعتمِدُ في المقامِ الأولِ أساليبَ سرديّةً تَقودُ الأفْرادَ الى التّماهي مع نماذجَ سلوكيّةٍ والامتِثالِ لها”. نحن أمامَ شكلٍ جديدٍ من أشكالِ الدّعايةِ يَتحقَّقُ من خلالِ السّردِ وحدَه. إنّه صِيغةٌ جَدِيدَةٌ لِلتَّخْفيفِ مِن وقْع الدّعايَةِ القديمةِ، أو هُو وَسِيلَةٌ من أجل استثارةِ الانْفعالِ دُون أنْ يَصِلَ ذلك إِلى حدِّ الاسْتلابِ الكُليِّ في المضمونِ الدّعائيِّ. يَجِب أَلَّا يَلتَفِتَ النَّاسُ إِلى حقائقِ الواقعِ، عَليهِم أنْ يَعيشوا أوْهامَهم وأحلامَهم فِي محْكيَّاتٍ تُبشِّرهم بِجنّةٍ لا يَضِلونَ فيها ولا يَشْقون، أو تمْنحُهم اِنْتصاراتٍ وهمِيّةٍ لا تَتَحقَّق إِلَّا في هَذِه المحْكيَّات بِالذَّات. بِعبارةٍ أُخرَى يَجِب أنْ نَفتحَ جُسورًا دَائِمةً بَيْن مَا يَعيشُه النَّاسُ حقًّا، وبيْن اسْتيهاماتٍ مَأواها التَّخْييلُ وَحدَه. وتلك وسيلةٌ مثلى لتَصريفِ أشكالِ العُنْفِ والتمرّدِ والارتدادِ عن الحقيقةِ. ما يعني صرفَ النّاسِ عن وجودِهم الفعليِّ واستعادَتِه في شكلِ محكياتٍ تتغنّى ببطولةٍ ليسوا هم أبطالَها.

ومصدرُ هذه القوّةِ يكمنُ في دورِ الحكاياتِ في حياتِنا، فنحن نُعيدُ من خلالها اكتِشافَ ما أصبحَ مألوفاً لدينا، أو نَنتَمي من خلالِها إلى الجماعيِّ في الذّاكرةِ. إنّ المحكيَّ قادرٌ، بقوّةِ التّمثيلِ التّشخيصيِّ فيه، على الدّفعِ بالنّاسِ إلى “الانخراط”. إنّه يُكسّرِ القيودَ التي تَشُدّ الفردَ إلى حقائقِ معيشِه، ليُحرّرَه من ” أوهام” الواقعِ وتَصاريفِ الدّهرِ. وهي أيضاً “ما يـُمَكّننَا مِن الكَذِب على أنْفسِنا، فالأكاذيبُ تُساعدنَا على إِرضَاءِ رغباتِنا. إنّ الحكايةَ، لا الـمُنتجَ أو الخدْمةَ التِي تُقَدمهَا المقاولةُ، هِي مَا يُرْضِي المسْتهْلكَ”. إنّ القصةَ تَتوجّهُ إلى القلبِ، إنّها وسيلةٌ تُمِدّنا بما يُساعدُنا ” على تعطيلِ الشكِّ” فينا، كما يقول كولريدج. “فمن خلالِه نَستعيدُ ما نعتقدُ أنّه حقيقةٌ، ما يعودُ إلى حقيقةِ الكائناتِ والأشياءِ”. فنحْن لا نحتاجُ في التّأثيرِ السّرديِّ إلى حُجَجٍ، فالحكايَةُ تُحيلُ على ما يُؤمِنُ به المتلَقي أو يَخشاه أو يَتوقُ إليه. يَتعلَّقُ الأمرُ بالتسلُّلِ خِلْسَةً إلى ذهنِه وتَوجيهِه إلى مقاصِدَ قد لا يَنتبِه إليها أبداً.

وقد تكونُ إبدالاتُ مابعد الحداثَةِ هي مصدرَ هذا الستوري تيلينغ، فقد سَقطَت فِي تَصوُّرها كُلُّ السرديّاتِ الكبيرِةِ التِي آمنَ بِهَا النَّاسُ أَكثَر مِن قَرْن مِن الزَّمَن، لقد كانتْ جزءاً من مشاريعِ الثّورةِ الأمميّةِ التي ظنّوا أنّها ستَقودُ الإنسانيّةَ إلى خلاصِها الأبَديِّ. سيعودُ النَّاسُ، بعد انهيارِ آمالاهِم في هذا الغدِ، إِلى أَنفسِهم يَبْحثونَ عن محْكيَّاتٍ صَغِيرَةٍ لا تَتَجاوَزُ حُدُودَ رَغَباتٍ عابرَةٍ، أو لَهَا عَلاقَةٌ بِانْتماءاتٍ مَحدُودةٍ مِنهَا العِرقُ والـمذْهبُ والطَّائفةُ والكثيرُ مِن النِّحَل التِي اِسْتفاقتْ مِن سُبَاتهَا. وقد اعتبرَها كرستيان سالمون “قرْصنةً” حقيقيّةً للمخْيالِ الإنسانيِّ وتوجيهِه لخدمةِ غاياتٍ اقتصاديّةٍ أو سياسيّةٍ عابرةٍ في الغالب في ذاكرةِ النّاسِ. فالتّمثيلُ السّرديُّ يُخلّصُهم من الرّقيبِ الداخليِّ ليَنغمِسوا في انفعالاتِهم بعيداً عمّا يُمليهِ العقلُ، إنّه يَمنحُهم روحانيّةَ شبيهةً بحدْسِ الصوفيّين وحالِهم.

وتلك هي الفواصِلُ بين الإرثِ الإنسانيِّ القَصَصيِّ كما صاغتْه المروياتُ والأساطيرُ المؤسّسةُ، وبين محكياتٍ صغيرةٍ ليستْ سوى إفرازٍ للحظاتٍ استهلاكيّةٍ عابرةٍ. “لقد كَانَت المحْكيَّاتُ التِي خلّفها لنا تَارِيخُ الإنْسانيَّة ِكُلُّه مِن هُوميروس إِلى تُولسْتويْ وَمِن سُوفوكليس إِلى شِكْسبِير تَحكِي أَساطِير كَونِيّةً، وكانت بذلك تُمِدّنا بدروسٍ وعبَرٍ وتجاربَ هي عصارةُ ما أنتجتْه الأجْيالُ السابقةُ. ولم يعدِ الأمرُ كذلك مع السْتوري تِيلينْغْ، فحكاياتُه تسْلُكُ سبيلاً عكْسيّاً، إِنَّها تَقومُ بإسقاطِ محكياتٍ اصطناعيّةٍ على الواقعِ هي ما يجبُ أن يؤثّثَ الفضَاءَ الرّمْزِيَّ فيه. إنّها لا تَروي تفاصيلَ خبرةٍ، وإنّما تكتفي برسمِ حدودِ الدفْقِ الانفعاليِّ وتُوجّهُه”. بعبارةٍ أخرى، لقد كانت المحْكيَّاتُ الكبيرةُ تَجمَعُ بَيْن النَّاس في المصيرِ، أَمَّا محْكيَّاتُ السِّياسةِ والدِّين والـمذْهب والعِرقِ فَتعُودُ بِهم إِلى الذّاتِ أو إلى “النِّحْلة”.

وهي صيغةٌ أخرى للقولِ، إنّ “المستَهلكَ” يعيشُ محكياتهِ، في الستوري تيلينغ، كخلاصٍ فرديٍّ، لا كمشروعٍ يَضُمُّ جموعاً، إنّنا نُودِعُ داخلَ الصيغِ السرديّةِ “حشوداً ” لا تُرى، سيعيشُها النّاسُ بالمفردِ. يجبُ أنْ يَقودَهم المحكِيُّ إلى أنْ يَبتَهِجَوا فرحاً وسروراً لحظةَ “الامتِلاكِ” أو لحظةَ “الانتشاء”، أو يتوجّسُوا خوفاً من المرضِ والموتِ وعذابِ القبرِ ونيرانِ جهنّم. يفعلُون ذلك كلّه وفق ما تُوحي بذلك نُصوصُهم في الذّاكرةِ الشعبيّةِ أو في تعاليمِ الدّينِ أو مآلاتِ السّلطةِ. إنّها حيلةٌ تواصليّةٌ جديدةٌ تستَهْدفُ لاوعياً يَعُجُّ بالحكاياتِ، فهي زادُه في لحظات الأملِ المرجُوِّ “ولو خابَ آمِلُه”. وفي هذا وذاك لا يَجِبُ أنْ يَلتَفِتَ الفردُ إلى شرْطِه المأساويِّ في الأرضِ. إنّ الوصلةَ والخطابَ السياسيَّ لا يتحدّثان عن أحلامِ النّاسِ من خلال مفاهيم، بل يَكتفيان بإدراجِها ضمن قصةٍ تُشخِّصُ إمكانياتِ تحقّقها في الحقيقةِ أو في الاستيهامِ.

وسَيُسارِعُ بَعْضُ محلّلي السياسةِ، وسيتبعُهم فِي ذَلِك الصَّحفيُّون والمعلّقون و”الخبراءُ”، إِلى الاستعانةِ بهذه المقولةِ مِن أَجْل بِنَاء مَنطِقٍ دَاخلِيٍّ لِلْخطَاب لا يَقْتاتُ فِي حقيقَتِه سِوى مِن الانْفعالات، أيْ بِالإحالةِ على مَا خزّنتْه الذَّاكرةُ من قَصصٍ ومروياتٍ هي جزءٌ من هويةٍ تُبنى على هامشِ وقائعِ التّاريخِ. ففي جميعِ حالاتِ الستوري تيلينغ نكونُ أمامَ طَرِيقَةٍ فِي التَّحايلِ على المضْمون الدعائيِّ الحقيقيِّ مِن أَجْل اِسْتحْضار مَا يُمْكِن أن يُوجّهَ الوِجدانَ إلى الاستِهلاكِ بواسطةِ الحكايَةِ. إنّه شبيهٌ بالبلاغةِ التِي تُمكَّننا مِن التَّحَكُّمِ فِي الكلماتِ في اِنفِصالٍ عن الأشْياءِ التِي تَقُوم بِتمْثيلِها، وهي ذاتُها التي تُمكّنُنا من التَّحكُّمِ فِي النَّاس مِن خِلَال التَّحَكُّمِ فِي الكلماتِ التي يسْتعْملونها.

وكان الأمريكيون برؤسائِهم ومُقاولاتِهم سبّاقين إل الاستعانَةِ بالمحكياتِ في حملاتِهم الانتخابيّةِ والتسويقيّةِ. فأغلب” السيّاسيين في الغربِ وكذا المقاولين ورجالِ الدينِ، تاتشر وتشرشل وأبراهام لينكون وكنيدي ومارتن لوثر كينغ، كانوا حكّائين كباراً”. لقد رأوا جميعهم في الحكايةِ بديلاً عن الآلياتِ الإقناعيّةِ التي تعتَمِدُ الأرقامَ والمؤشراتِ ونسبةَ البطالةِ وكلّ ما يعودُ إلى تفاصيلِ حياةِ النّاسِ. لا يَتعلّقُ الأمرُ بتجاهلٍ لمعطياتِ الواقعِ، بل يجبُ استثارتُها من خلالِ حكاياتٍ تَستعيدُ شرطَ النّاسِ كما يَتسرّبُ إلى أهوائِهم لا إلى معاناتِهم اليوميّةِ. فالمحكيُّ يمتُّص الانفعالاتِ ويُروّضُها، وبذلك يُصبِحُ البديلُ هو ما يُمكنُ أنْ يُوحي به السّردُ أو يُوهِمُ به. ذلك أنّ “الاستعانةَ بالمحكيِّ لا يقتضي تقديمَ صورةٍ باهتةٍ عن واقعٍ خارجيٍّ، إنّه، على العكسِ من ذلك، هو ما يُسْهِمُ في تَشكيلِه “.

بعبارةٍ أخرى، يجبُ أنْ نَنزعَ “الغطاءَ” السياسيَّ والتسويقيَّ عن الرسائلِ الدعائيّةِ لكي تُصبحَ أكثرَ “إنسانيّةً”. يجبُ أنْ يعيشَ المتلقي رغباتِه في شكلِ حلمٍ لا يشكّلُ الإشباعُ فيه سوى الظاهرِ. وليس هناك من سبيلٍ سوى محكياتِ الحياةِ. وقد كان رونالد ريغان، حسبَ ما يُشيرُ إلى ذلك كِرسْتيان سالمون، مِن أَكثَر رُؤَساء أَمرِيكا اِسْتعْمالا لِلْحكايات. فَقَد عُرِف عَنْه مَيلهُ الشّدِيدُ إِلى تَضمِين خِطاباتِه وحملاتِه الانتخابيِّةِ ومُقابلاتِه الكثِيرَ مِن المحْكيَّاتِ والنَّوادرِ والطُرفِ. لَم يَنْس أبدًا أَدوَارَه الثانويّةِ فِي أَفلَامِ الكوبوي، فقد ظلَّ يَستَمدُّ مِنهَا ما يُشكّل أدلّةً وبراهينَ تُؤكدُ أحقيّتَه في كُرسيِّ الرّئاسةِ. وذاك ما أكّده بُوش الابن عندما صرّح ردّاً على مُنتقِديه: “سنخْلقُ لكُم الكثيرَ من الحِكايَاتِ لِلتَّغْطيةِ على الواقعِ، وستُحاولونَ العَودةَ دائماً إِلى هذَا الواقعِ، وسَنرُدُّ عليْكم بِالـمزيدِ مِن الحكايات”.

إنّ هذه المحكياتِ لا تُدعِّم المضْموَن السِّياسيَّ فقط، إنّها بالإضافةِ إلى ذلك تَجعلُه مَألُوفاً لَدى السَّامعِ، إِنَّ الفاعلَ السياسيَّ لا يَذهبُ إلى النَّاسِ بشعاراتِ السياسةِ أو الإيديولوجيا، إنّه يتقاسم معهم حِكاياتِه ويُذكّرهم بما نسوْه منها. فالحكاياتُ، لا السياسةُ، هي مَا يَبعَثُ الدِّفْءَ والحميميَّةَ في التّواصلِ ويُسقطُ الحجبَ الفاصلةَ بين الفاعلينِ وبين جمهورِهم. إنّهم لا يَفعَلون ذَلِك اِسْتنادًا إِلى إيديولوجْيَا صريحَةٍ، كما لا يفْعلونه اِسْتنادًا إِلى نمطٍ فِي الإقناع أو تعاليمَ من العقيدةِ. إنّ الأمرَ يَكمُنُ في الإخراجِ، والسِّياسة هي في المقامِ الأوّلِ إِخْراج، إنّها مَشهَدٌ حَياتِيٌّ يضعُ أَمَام المتفرِّج قضايَا فِي الاقْتصاد والاجْتماع ونظام القيَم في ثوبِ التّخييلِ.

وذاك ما قام به باراك أوباما أيضاً. لقد أَطلَقَ شِعارَه الشهِيرَ، yes, we can ” ، نعم نَحْن قادرون”، لَم يَكُن الأمْرُ يَتَعلَّق عِنْده بِشعارٍ دعائيٍّ مَشدُودٍ إِلى برْنامجٍ في السياسةِ والاقتِصادِ، بل كان دعوةً للمتلقِّي إلى استعادةِ قِصَّةِ الإنْسانِ فِي الأرْضِ وسعْيِه الدَّائم إِلى التَّقدُّم، بِالحلُم والرَّغْبةِ والاسْتيهام والكدِّ فِي المعاملِ والحقولِ تارةً، وبالسّعيِ إلى مقاليدِ السّلطةِ بالنيّةِ الصادقَةِ أو بالخديعةِ تارةً أخرى. إنّها قِصةُ كُلِّ الَّذين كان يَتَوجَّه إِليهم ويطْمحُ إِلى استِمالتِهم من خلال بِنَاء قصّةٍ فِي السِّياسةِ هي مجموعُ حكاياتهم فِي الحياةِ. فــ “قُدْرةُ” أوباما لم تكنْ سوى تجسيدٍ لقدراتِهم التي سيكتَشِفونَها في شِعارِه: “نعم إنّهم قادرون”. وفي السياقِ ذاتِه كانت سِيغولين رْوايالْ قد صرّحتْ في حَمْلتِها الانتخابيَّةِ لرئاسيات 2007 في فرنسا: “إِنَّ مُمَارسَة السِّياسة تَقتَضِي سَرْد حِكايَاتٍ شخْصيَّاتُهَا هُم المواطنون أَنفُسهم”.

وَذَاك مَا تُشير إِلَيه الكثِيرُ مِن حِكايَاتِ السِّياسةِ فِي المغْربِ، وتلك حالةُ الكثيرِ من الحكائين في الميدانِ السياسيِّ والنّقابيِّ والدعويِّ. فقد أدمنَ الفاعلونَ الجُددُ فِي ميدان التّباري على السّلطةِ على الحكيِ وحوّلوا المشهدَ السياسيَّ إلى “حَلْقةٍ” تَعودُ بجمهورِ الحاكِي إلى ما قامَ به السّلفُ أو دَعا إليه أو نَهى عنه. وبذلك تَحوَّل الفعْلُ السِّياسيُّ إِلى تمرينٍ في السّردِ يحُلُ محلَّ تَفصيلِ القولِ في البرامِجِ والمشاريعِ. إنّ المشروعَ الوحيدَ الممكِنَ هو ذاك الذي تَصفُه محكياتُ الماضيِ أو تُذكِّرُ به. فالعودَةُ بذاكرَةِ الجمهور السّامِع أو القارئِ شرطٌ ضروريٌّ لتحقيقِ الانخراطِ في فعلٍ سياسيٍّ يمتزجُ فيه التّصويتُ بأصداءِ قَعقعةِ السيوفِ في الغزواتِ القديمةِ. هناك ربطٌ صريحٌ بَيْن الدِّين والسِّياسة، وَبذَلِك يَتَمكَّنُ المناضلُ في الحزبِ أو الـمُصوِّتُ في الانتخاباتِ مِن رِبْح الآخرةِ والدُّنْيَا.

لَقد حَلَّت محْكيَّات “العادِلين” فِي التَّاريخِ عندهم محلَّ البرامجِ في الاقتصادِ. إنّهم لا يُقدِّمون أنْفسَهم كَفاعِلين فِي السِّياسة، إِنَّهم صَوْتٌ مِن الماضي، أيُّ لَحظَةٌ فِي التَّاريخ الدِّينيِّ تَعُد جُزْءًا مِن قِصَّة “العُمَريْن”، وَمِن “الصدّيق”ِ وأَبِي ذرٍ، ومِن صُوَر أُخرَى لِعدالةٍ مَوجُودة فِي المحْكيَّات التي خزّنتها الذاكرةُ، إنْ لم تتحقّقْ في الواقعِ، فإنّها ستكونُ بديلاً استيهاميّاً لفعلٍ أجهضَه أعداءُ الدّينِ. وهذا معناه أنّ الفعْلَ عَارِضٌ فِي الحكايةِ، مثلما أنّ الشَّخْصيَّاتِ عَارِضةٌ في خطاطةِ بِروبْ، فالأساسيُّ، هُنَا وهناك، هُو الإيقاع أيْ “الإخْراج”. “لَقد انْتقلْنَا مع السَّتوري تِيلينْغ مِن ” الوظيفَةِ” إِلى “التَّخْييل””، ومن الحجّةِ والدليلِ إلى الانفعالِ والهوَى. إنّ الفاعلَ يَحكي قصصاً ستتحوّلُ في السياسةِ إلى أدعيةٍ وتراتيلَ. يتعلّقُ الأمرُ بنَفَسٍ شَعبويٍّ لا يُمكنُ أنْ يَستَقيمَ إلا إذا استَندَ إلى حِسٍّ سليمٍ هو في الأصْلِ بداهاتٌ يَطمئنُّ إليْها النّاسُ.

وذاك ما تؤكّده المسلسلاتُ التلفزيونيّةُ التي غزتْ كلّ البيوتِ في بلادنا، وفي بلدانٍ أخرى. فالمغاربَةُ يعيشون جُزْءًا كبيراً مِن مآسيهِم وأحلامِهم فِي مَحْكيَّاتِ آتيةٍ من تركيا والمكْسيكِ، إِنَّهم يعيشون في الاسْتيهامات ما يعيشُه كلُّ الأَبطَالِ في المسلْسلاتِ. عندما تَضيقُ سبلُ العيشِ يحتاج النّاسُ إلى البكاءِ (يبدو أنَّ المسلسلاتِ المصريّةَ والسوريّةَ لم تعدِ تُقدّمُ ما يكفي من الشّجنِ والانفعالِ).

وضمن هذه الاستراتيجيّةِ التواصليّةِ بَلوَر مناضِلو اليسارِ أنفسُهم محكياتٍ “هامشيّةً” مُستمَدةً مِن دِين الإسلامِ نفسهِ، ولكنّها كانت تُشكّكُ فِي الصُّورة الـمُثلى لِهَذا الدِّين: قصّةُ أَبي ذرِّ ومحْنَتُه فِي السِّياسة والتَّحكُّم، وقصةُ على بْن أَبِي طَالِب ومعاناته مع أتْباعه وخصومِه، ومأساةُ الحسين التي يعيشُ بها اليومَ الملايين من النّاسِ، ومحنةُ الحلّاج وهو يروم الذوبان في ذاتٍ إلهيّةٍ تُلغي الفواصلَ بين الرّوحِ والجسدِ. يَتَعلَّق الأمْر في كلِّ هذه المحكياتِ بِبناءِ تارِيخٍ آخر للدّين مسْتوْحى من سيرةِ دعاتِه في العدلِ المطلقِ، إنّه دينُ الفقراءِ ضدّاً على إِسلَامِ السُّلْطةِ والنِّظام الاجْتماعيِّ القائم. وهذا معناه أنّ السّردَ شرطٌ من شروطِ بناءِ الهويّةِ، ” فبناؤُها يتمُّ على مستوى المتخيّلِ لا على مستوى الواقعِ. إنّ التّمثيلَ التخييليَّ وحدهُ قادرٌ على التّحايلِ على الزّمن الفيزيقيِّ وتحويلهِ إلى كميّاتٍ يُعيدُ السّاردُ تشكيلَها وفقَ هواهُ. إنّ استعادةَ الماضي “المجيد” لا تتحقّقُ عبر إحياءٍ للمفاهيمِ، إنّها تَمرُّ بالضّرورةِ عبرِ تعميمٍ للحكاياتِ”.

وَذَاك مَا فَطِن لَه الكثِيرُ مِن الدُّعَاة الإسْلاميِّين المنتشرين في كلّ الفضاء الثقافيِّ العربيِّ. لقد نَبذُوا سبيل الوعْظ القائم على الوعْدِ والوعِيدِ والتَّرْغيبِ في الْجَنَّة أو التَّهْديدِ بِالنَّار. إنّ محْكيَّاتِ الماضي عندهم ِهي الـمَنْفذُ المفضّلُ إِلى قُلُوب النَّاس. وفِي هَذِه الحالة، يُبنَى السَّتوري تِيلينْغْ، وَفْق مُحددَات فِي الدِّين لا تُصْبِح مَرئِيةً فِي ذاكرةِ الـمُؤمنِ ووجْدانِه إِلَّا مِن خلَالِ اِسْتعادة مرْويَّات تَخُص الصَّحابة الأوَّلين ومآثرهم فِي العدْل والوفاء والأمانة. فنحن لا نَعرِفُ من الشّعائرِ إلا ما كان مرتبطاً بحكايةٍ هي جزءٌ من سلوكِ النبيِّ أو صحابتهِ. فما ” تقدّمهُ جلساتهم ليسَ وعظاً حافياً يعتمدُ الخطابَ التقريريَّ المباشرَ في بلورةِ رسالتهِ، بل هو أسلوبٌ قصصيٌّ أداتهُ المثلى في “النّصحِ” و”التّنْبيهِ” و”التّوجيهِ” و”التّحذيرِ” هيَ سردُ حكاياتٍ تُعيدُ صياغةَ حياةٍ ماضيةٍ يجبُ أنْ تقودَ إلى بلورةِ ” قواعدَ للفعلِ”.

وعلى العكْسِ من ذلك كان “معْقولُ” حزبُ التقدّمِ والاشتراكيّةِ، لقد كان هذا الشعارُ يَشكو من خصاصٍ في الحكاياتِ. لم يكنْ في واقعِ الأمرِ سوى إعلانٍ عن نوايا لا يُصدّقُها التجارُ أنْفسُهم. فالمعقوليّةُ جزءٌ من خطابٍ يَتداولُه النّاسُ في ما يُشبِهُ اللّغْو الذي يُضْفِي حميميّةً صادقةً أو مزيّفةً على علاقاتِهم في التّجارةِ أو في تبادُلاتهم اليوميِّةِ. وأكثرَ من ذلك، فالمفهومُ ذاتُه يُمكنُ أنْ يُصبِحَ دالاًّ على نَقيضِه، المدحُ الذي يُشبهُ الذّم ( ها المعقولْ !!!!). لم يكنِ الحزبُ وربما ما زال، يَعتمِدُ قصةَ النّاسِ في حياتهم، لقد ظلّ يَمتحُ قصَصَه من “الكتابِ”، فهو ذاكرتُه في المطلقِ “الأمميِّ” لا في تَفاصيلِ عيشِ النّاسِ.

والمبدأُ نفسُه يعتمدهُ الإشهاريُّ في الإعلاءِ من شأنِ منتجاته. فالسّردُ هو وسيلتُهُ إلى بيْعِ مُنتَجٍ سيَتحوّلُ عند المستهلِكِ إلى سبيلٍ للتماهِي مع العَوالِم التي يُبشِّرُ به محكيُّ الدعايَةِ. فالـمُنتجُ الذي يَتداوله النّاسُ فِي السُّوق حَاضِرٌ فِي فَضَاءِ الاسْتهْلاكِ من خلالِ حكاياتِهم في التزاوُجِ والطقوسِ الدينيّةِ والتّنافسِ بين النّساءِ والرجالِ في الهويّة والامتلاكِ. لذلك لا يجبُ أنْ يَـمْثُلَ في ذاكرةِ النّاسِ من خلالِ خصائِصِه، بل عليه أنْ “يَتَخلَّى” عن وظيفَتِه، لِكيْ يُصْبِحَ “حدثًا ” دَاخِل مَحكِّيٍّ هو ما يلْتقِطُه وجدانُ المتلقي ويحتَفي به.

وَكمَا يَتَعلَّم الصِّغَار بِالـمَثَل والحكْمةِ والحكاية، فَإِنّ الـمُنتجَ ذَاتَه لا يُصْبِحُ حيًّا فِي ذَاكِرةِ المسْتهْلكِ إِلَّا عِنْدمَا يَندَرِجُ ضِمْن تَفاصِيلِ الحياةِ، أيْ عندما تُبنىَ حَولَه محْكيَّاتٌ تَرفَعُ مِن شَأنِه ومِن شَأْن مَالِكِه أو مُسْتعْمِلِهِ. وذاك هو مصدرُ الحاجَةِ إلى “هويّةٍ بصريّةٍ” لا تُقدِّمُ لنا مضموناً تسويقيّاً غُفلاً، بل تَحكي لنا حكاياتٍ لها علاقةٌ بانتِظاراتِنا وأحْلامِنا وأوْهامِنا. إنّ “الماركَة هي في المقامِ الأوّلِ علاقةٌ”. فمن خلالها ينتَقِلُ التّسويقُ من الـمُنْتَج الى اللّوغو ومن اللّوغو الى الحكايةِ. ” إنّ النّاسَ لا يشترون منتجاتٍ، إنّهم يشترون في حقيقةِ الأمرِ القصص التي تَسْتَثيرُها هذه المنتجاتُ”.

صلاح جميل

الكاتب

صلاح جميل

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق