هكذا تحقق مراجعة مدونة الأسرة مقاصد الإسلام السمحة في العلاقات الأسرية

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

أبان اللقاء التواصلي مع ممثلي وسائل الإعلام الوطنية والدولية الذي عقدته الحكومة الثلاثاء 24 دجنبر 2024، تنفيذا لتعليمات جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الواردة في بلاغ الديوان الملكي الصادر إثر جلسة العمل التي عقدها جلالته مساء الإثنين 23 دجنبر 2024، التي خصصت لموضوع مراجعة مدونة الأسرة على الخطوط العريضة لهذه المراجعة.

ومن خلال العرض المفصل الذي قدمه وزير العدل، السيد عبد اللطيف وهبي، الذي قدم من خلاله الخطوط العريضة للإصلاح، نسجل ما يلي:

أولا: أن هذه المراجعة جاءت لتحقق التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بصفته ولي الأمر وأمير المومنين، والقائمة على احترام مقتضيات النصوص الشرعية والمرجعية الفقهية، وعدم تحليل الحرام، ولا تحريم الحلال، مع إعمال فضيلة الاجتهاد البناء الذي ينطق من النصوص الشرعية، وإعادة قراءتها في ضوء فقه المناط والواقع المتجدد، مع الحرص على تحقيق مقاصد الإسلام السمحة، ومراعاة المرجعية الدستورية، والتشريعات الوطنية والتزامات المغرب الدولية.

ثانيا: أن كل ما ورد فيه نص قطعي في الشريعة الإسلامية، أو أجمع عليه جميع علماء الأمة، لم تنله المراجعة، ومن هنا لم يوافق المجلس العلمي الأعلى على اعتبار الخبرة الطبية سببا من أسباب لحوق النسب الذي قد يؤدي إلى الاعتراف بنسب الأطفال المولودين خارج العلاقات الزوجية بما يترتب على ذلك من آثار، كما تم استبعاد إمكانية الزواج بين المسلمة وغير المسلم، وكذا التوارث بين المسلم وغيره، وللسبب ذاته تم استبعاد نظام الإرث من المراجعة سواء تعلق الأمر بالمساواة في الإرث، أو بإلغاء نظام التعصيب أو الوصية للوارث، وهذا كله يدل على وقوف الإصلاح في حدود ما يقبل الاجتهاد.

ثالثا: أن هذه المراجعة فتحت باب الاجتهاد البناء لمعالجة مجموعة من الإشكالات، وأعطت مجموعة من الحلول من أجل تجاوز بعض العيوب والاختلالات التي ظهرت عند تطبيق مقتضيات المدونة ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ونمط الأسرة التي أصبحت قائمة واقعيا على المسؤولية المشتركة للزوجين، وحضور المرأة القوي في تدبير شؤون الأسرة والأطفال، وهو الأمر الذي فرض تعزيز موقعها في الحضانة والنيابة الشرعية على الأبناء حتى يكون القانون مطابقا للواقع الاجتماعي، ولا يكون هناك بون شاسع بين القاعدة القانونية والواقع الاجتماعي.

رابعا: أن هذه المراجعة تسعى إلى تعزيز قيم الإسلام السمحة في بناء العلاقات الزوجية، وذلك واضح من خلال السعي إلى تأسيس هذه العلاقة على الوضوح والصدق والوفاء بالشروط الإرادية التي يمكن تضمينها في عقد الزواج، ومن ذلك التنبيه إلى إمكانية إدراج شرط عدم تعدد الزوجات في عقد الزواج، وهو شرط معمول به في الفقه المالكي، ومؤسس على نصوص الشرع الواردة في الوفاء بالوعود والعهود، وكذا حديث “المسلمون عند شروطهم”. ولا شك أن ذلك يسهم في خلق جو من الشفافية والوضوح والصدق والإخلاص في العلاقات الزوجية والإنسانية.

ومن مظاهر تعزيز قيم الإسلام أيضا الاعتراف والاعتداد بمجهود المرأة في خدمتها المنزلية وقيامها بشؤون زوجها. غير أن تطبيق هذا الأمر مشروط أولا بوجود ثروة اكتسبها وراكمها الزوج في مرحلة الزوجية من جهة، وإثبات قيام الزوجة بالعمل المنزلي من جهة أخرى، وكون المرأة ربة بيت من جهة ثالثة، فإذا لم تكن هناك ثروة مكتسبة للزوج في مرحلة الزوجية، أو كانت مدة الزواج قصيرة، أو أن الزوجة لم تكن تقوم بالأعمال المنزلية نظرا لتوفر الأسرة على خادمة أو نحو ذلك، أو كانت المرأة عاملة تقضي جل وقتها في العمل خارج البيت، ففي هذه الحالات قد لا يقتنع القاضي بالاعتداد بالعمل المنزلي.

خامسا: أن هذه المراجعة تسعى إلى تحقيق مقصد التكافل الأسري والاجتماعي ومعالجة بعض المشكلات التي أفرزها الواقع الاجتماعي من قبيل إيقاف بيت الزوجية واحتفاظ الزوج الذي مازال على قيد الحياة به، في حالة وفاة الزوج الآخر بشكل مؤقت وفقا لشروط وضوابط يحددها ويضبطها القانون، وهذا يجد أساسه في القياس على تمكين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من الحجرات التي تركها، على سبيل الإرفاق بهن؛ لأن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم يؤول إلى بيت المال، وليس لزوجاته الحق فيه لأنه لا حق لهن في إرثه؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وكذا في القياس على النساء المهاجرات اللاتي اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيةَ إخراجهن من السكن بعد وفاة أزواجهن، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن بالسكن. فقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن كلثوم بن المصطلق، عَنْ زينب، أَنَّهَا كَانَتْ تَفْلِي رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَنِسَاءٌ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَهُنَّ يَشْتَكِينَ مَنَازِلَهُنَّ أَنَّهَا تَضِيقُ عَلَيْهِنَّ، وَيُخْرَجْنَ مِنْهَا «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم أَنْ تُوَرَّثَ دُورَ الْمُهَاجِرِينَ النِّسَاءُ»، فَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَوُرِّثَتْهُ امْرَأَتُهُ دَارًا بِالْمَدِينَةِ”.

قال الخطابي في معالم السنن: “فأما توريثه الدور نساء المهاجرين خصوصا فيشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة؛ وإنما خصصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن بها، فجاز لهن الدور لما رأى من المصلحة في ذلك؛ وفيه وجه آخر وهو أن تكون تلك الدور في أيديهن مدة حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحجره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: “نحن لا نورث ما تركناه صدقة”. ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال: “كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات؛ لأنهن لا ينكحن، وللمعتدة السكنى فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها”.

ونظرا لضعف التكافل الاجتماعي في هذا العصر، وما يمكن أن يلحق الزوج الباقي على قيد الحياة من الحرج الشديد في حالة إخراجه من السكن، فليس هناك ما يمنع من قياس هذه الحالة على حالة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وحالة النساء المهاجرات بمكة، ويخصصن بهذا السكن مدة معينة على سبيل الإرفاق بشروط وضوابط تحول دون إلحاق الضرر بباقي الورثة، ويقاس الأزواج على الزوجات في ذلك.

سادسا: إضفاء الطابع القانوني على واقع معاش ليحصل الانسجام بين الواقع والقانون، لاسيما أن هذا الواقع لا يصادم الشرع، ومن ذلك جعل النيابة الشرعية على الأبناء وتدبير شؤونهم الإدارية والتعليمية مشتركة بين الأب والأم؛ وذلك كتسجيله في المدرسة أو نقله منها، أو حصوله على البطاقة الوطنية أو جواز السفر، أو غير ذلك من التصرفات، وهي أمور في غالب الأحيان تقوم بها الأم اليوم؛ لأن قضية النيابة الشرعية لم يرد فيها نص شرعي صريح، ولا هي من باب التعبد، وإنما هو حكم قائم على رعاية مصلحة الأولاد وتدبير أمورهم التدبير الأمثل. والأم اليوم في تحقيق هذه المصلحة كالأب، ولذلك تم جعل النيابة الشرعية مشتركة بين الأبوين، وفي حالة وقوع الخلاف في أمر من أمور النيابة الشرعية يتم اللجوء إلى القضاء.

سابعا: مراعاة مصلحة الطفل في مرحلة الحضانة، وذلك بالإبقاء على الحضانة للأم المطلقة حتى ولو تزوجت، وهذا لا يمنع الأب من المطالبة بإسقاط حضانتها إذا ثبت ضرر المحضون بسبب زواجها، وإذا كان جمهور المالكية على أن المطلقة الحاضنة تسقط حضانتها بزواجها ودخول زوجها بها فإنهم اشترطوا لسقوطها ألا يؤدي ذلك إلى الإضرار بالمحضون. والفطرة تقتضي أن نزع الطفل من أمه مظنة لضرر يلحق الطفل، والضرر يزال.

قال الدسوقي: “فإن دخل بها نزع الولد منها ما لم يخف على الولد بنزعه منها الضرر، وإلا بقي عندها، ولا تسقط حضانتها كما يفيده قول المصنف (أي الشيخ خليل) الآتي أو لم يقبل الولد غير أمه”. ثم إن القول بسقوط حضانة المرأة في حالة زواجها هو القول المشهور في المذهب. وهناك قول آخر يرى عدم سقوط حضانتها بإطلاق، وهو قول الحسن البصري، وقول في المذهب. قال الشيخ خليل في التوضيح: “وهذا هو المعروف. وفي المتيطية عن مالك أنه ليس للوالد أخذ الولد من الأم، وإن تزوجت ودخل بها زوجها إذا كان الابن في كفاية”.

ثامنا: إعطاء بدائل شرعية لحل مشكلات اجتماعية وواقعية. ويتجلى ذلك في التنصيص على إمكانية فتح باب الوصية والهبة بين الزوجين مختلفي الدين كحل شرعي بديل لمطلب التوارث بين المسلم وغير المسلم، وكذا فتح باب الهبة للأولاد وخاصة البنات في الحالة التي يكون للشخص بنات فقط، أو يكون له أولاد ذكور وإناث ويرغب في تخصيص بعض بناته ببعض أمواله، وهذا جائز في مذهبنا المالكي؛ مع الإشارة إلى أن حوز هذه الهبة يكفي فيه الحوز القانوني أو الحكمي (أي التسجيل في المحافظة العقارية) على الحوز الفعلي طبقا لمقتضيات المادة 274 من مدونة الحقوق العينية.

تاسعا: أن هذه المراجعة اعتنت بتبسيط الإجراءات القانونية للمواطنين المغاربة المقيمة بالخارج، وذلك بتبسيط مسطرة زواجهم التي يمكن أن تجرى بالمغرب، أو في القنصليات المغربية؛ كما يمكن أن يتم توثيق زواجهم أمام السلطات الأجنبية لمحل إقامتهم. وفي هذه الحالة كانت المدونة الحالية تشترط حضور شاهدين مسلمين، غير أن المراجعة توصي بإلغاء اشتراط الشاهدين المسلمين في حالة تعذر وجودهم، وهذا لا ضير فيها؛ لأن الغاية من الشهادة على الزواج هي الإعلان، والإعلان يتحقق بالمسلم وغيره، ولذلك قبل أبو حنيفة شهادة الفاسق؛ لأنه يتحقق به الإعلان، ولأن اشتراط الإسلام في الشاهدين ليس تعبديا، وإنما الغاية منه التوثق وحماية الحقوق باعتبار الإسلام مظنة للصدق، وهذا الغاية متحققة غالبا في الموظف الأجنبي الذي يوثق هذه المعاملات حتى ولو كان غير مسلم بحكم مسؤولياته القانونية والمهنية. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الإشهاد ليس شرطا في الزواج أصلا، لا شرط صحة ولا شرط تمام، وهو ما كان عليه الأمر في زواج السلف. قال الشيخ ميارة في شرح التحفة: “وفي كلام المتقدمين ما يشعر بأن انصراف معظم القصد في النكاح إنما هو الشهرة، ولذلك قال ابن شاس في جواهره ولم تكن أنكحة السلف بإشهاد.

وفي جواب الأستاذ أبي سعيد بن لب عن مسائل من هذا المعنى أعني الإشهاد في النكاح أو في المراجعة من الطلاق ما نصه: ‘قد ذكر أهل المذهب أن الإعلان بالنكاح وشهرته مع علم الزوج والولي بذلك يكفي، وإن لم يحصل إشهاد، وهكذا كانت أنكحة كثير من السلف، وهذا المعنى قد حكي عن ابن القاسم’؛ مع العلم أن توثيق الزواج أمام ضابط الحالة المدنية تستتبعه مسطرة وإجراءات أخرى منصوص عليها في المادة 15 من المدونة وهي إيداع نسخة منها بالمصالح القنصلية المغربية خلال أجل لا يتعدى ثلاثة أشهر، وهو استكمال لتوثيق الزواج والاعتداد به من طرف السلطات المغربية.

عاشرا: تشجيع اللجوء إلى الصلح والوساطة في النزاعات بين الزوجين والتوفيق بينهما في ما يترتب على الطلاق من آثار، وإسناد ذلك إلى هيئة غير قضائية. غير أن هذا لا يشمل الطلاق الاتفاقي الذي يعتبر تعاقدا مباشرا بين الزوجين لا يحتاج على سلوك المسطرة القضائية.

حادي عشر: تبسيط مساطر توثيق الزواج. ولعل المقصود من ذلك هو التوثيق المباشر عند العدول دون الحاجة إلى الإذن القضائي بتوثيقه، وأن العدول هم الذين يتولون جمع الملف والنظر في وثائقه تحت إشراف قاضي التوثيق دونما حاجة إلى إذن قاضي الأسرة المكلف بالزواج. وفي ذلك تبسيط لمسطرة الزواج وتجنب طول الإجراءات وكثرة المتدخلين في مسطرة توثيق الزواج.

ثاني عشر: حماية القاصر، وذلك من خلال التأكيد على سن الثامنة عشرة للزواج، وتحديد سن 17 سنة كحد أدنى لإمكانية الإذن بزواجه دون سن الرشد، وتحديد إجراءات قانونية يتعين على المحكمة سلوكها لترشيده، وتعزيز الحماية القانونية لأمواله وفرض رقابة قضائية على التصرفات التي يجريها وليه أو وصيه أو المقدم عليه.

ومن خلال هذه المخرجات ندرك أن الهيئة المكلفة بمراجعة المدونة بذلت جهدا كبيرا من أجل اقترح حلول قانونية متقدمة ومتوازنة، تستجيب لتطلعات المجتمع المغربي وتسعى إلى تحقيق قيم العدالة والإنصاف في العلاقات الأسرية. كما أن المجلس العلمي الأعلى أبدى رأيه في ما أحاله عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله من القضايا المرتبطة بالنصوص الشرعية، وبهذا المزج والتوفيق بين مقترحات الهيئات الدستورية والمهنية، والمؤسسة العلمية يكون المغرب مدرسة رائدة في معالجة القضايا المجتمعية في إطار الثوابت المغربية التي ترعاها مؤسسة إمارة المومنين.

  • أستاذ بكلية الحقوق أكدال بالرباط، وعضو المجلس العلمي الحلي لفاس

عبد الله السعيد
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق