د. محمد فؤاد يكتب: اقتصاد مصر بين الحكومة ومجتمع الأعمال (2): "المقايضة الكبرى"

الرئيس نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

تناولت في المقال السابق "اقتصاد مصر.. بين الحكومة ومجتمع الأعمال"، مقترح استحداث لجنة لدراسة تأثير سعر الفائدة على التشغيل، وهو أحد النقاط التي استوقفتني في لقاء رئيس الحكومة د. مصطفى مدبولي مع عدد من كبار المستثمرين ورجال الأعمال، والدور الآن يأتي على مقترح آخر قد أثار لغطا وحمل رؤى تستحق التفنيد في مهدها.

أتحدث عما طرحه الاقتصادي ورجل الأعمال حسن هيكل، بشأن تصفير الديون الحكومية المحلية، البالغة نحو 8 تريليونات جنيه، لصالح البنك المركزي، عبر تنفيذ ما اسماه "المقايضة الكبرى" تتضمن بيع الحكومة شركات وأراضى وبنوك بقيمة حجم المديونية المحلية لصالح صندوق جديد يؤسسه البنك المركزى، حتى تصبح مديونية الدولة بالجنيه "صفرًا".

حسبما اتجهت الفكرة، يرى «هيكل» أن تصفير المديونية المحلية سوف يرفع عبء سداد فوائد بالموازنة العامة للدولة فى حدود ٣ تريليونات جنيه، مستشهدا بما حدث في اليونان، منذ نحو 12 عامًا، عندما تدخل "الفيدرالي الأوروبي" لشراء كامل المديونيات الخاصة بالبنوك والاستثمارات والأصول وحول ديون الدولة الداخلية إلى الصفر وعليه تم إنقاذها من الإفلاس.

وفي الحقيقة، فإن فكرة تحويل الأصول في اليونان لم تكن ذاتية التنفيذ، فقد كانت مُهندسة من خلال "الترويكا" (البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والحكومات الأوروبية)، وتمت في إطار مُنظم لتعويم الدولة، بما يجعل إسقاط هذه التجربة على الوضع على مصر غافلا لعدة أمور، أولها أن الدولة المصرية قد أنشأت صندوقا سياديا لإدارة الأصول بالفعل ويقارب دوره لما يقترحه "هيكل"، وعليه فمن غير الواضح إن كان هناك جديدا سوف يقدمه الصندوق المقترح.

الأمر الآخر، أن فكرة الإنقاذ من الداخل بالاعتماد على موارد الدولة الذاتية يعني تجميد أموال -هي بالأساس أموال مودعين- بأصول ثابتة أغلبها غير مدر للدخل، ثم أنه حتى مع افتراض تصفير الديون بأي وسيلة، فلا توجد ضمانات للعودة إلى نفس الدائرة مرة أخرى طالما ظلت عملية إدارة الدولة من الناحية الاقتصادية كما هي.

وقد دار حوار لطيف بيني وبين "هيكل" عبر مناقشات على موقع التواصل الاجتماعي إكس، أوضحت خلاله عدم قناعتي بالفكرة أو إمكانية تنفيذها، خاصة وأن تفاصيل المقترح غير واضحة على الإطلاق وتعبر عن ارتجال نظري للغاية يفوته حقيقة الوضع وإشكاليات التنفيذ، وقد طلبت منه توضيحا عن آلية التعامل مع تبعات تطبيق الفكرة خاصة وأن أموال المودعين هي قوام للدين المحلي نظرا لالتهام الحكومة أغلب الاستخدامات البنكية، وأن ما يقترحه من تصفير للدين لا يعدو كونه ما يعرف بالتيسير الكمي "Quantitative Easing" (وهي اداة نقدية غير تقليدية لكن ليست بدعة) سوف تزيد بالضرورة المعروض النقدي وترفع التضخم لمستويات قياسية.

ردّ “هيكل" مشكورا بالحديث أنه عند تنفيذ مقترحه، لا يظن أن الكتلة النقدية سوف تتغير، موضحا أن مضمون فكرته يجعل البنك المركزي يحل محل الدولة في التزاماتها بالجنيه مقابل الأصول، بمعنى تحويل الدين فقط، حيث -في تقديره- أن الكتلة النقدية من الممكن أن تنشأ في حالة اقترضت الحكومة مرة أخرى وأنفقت دون حدود، كما أن الودائع محمية ولا علاقة لها بذلك لأنها على مستوى البنوك التجارية وأن البنك المركزي سوف يدفع للبنوك بدلا من الدولة، أما عن التضخم فقد أشار إلى أن مشكلته الأساسية هي العملة.

وفي حين أن عملية التيسير الكمي التي سوف تحدث لا محالة سوف تفرض زيادة حجم ميزانية البنك المركزي بما يدفعه إلى ضخ أموال جديدة في الاقتصاد وبالتالي سوف ينمو المعروض النقدي في ظل أن المقايضة بالضرورة سوف تحفز إنشاء الائتمان من قبل المركزي حين يقوم بإنشاء احتياطيات لسداد حاملي الأوراق المالية، إلا أن الإشكالية الأكبر ستكون في ارتفاع معدلات التضخم التي نعاني منها حاليا وتربك اقتصاديات الدولة والمواطن على حد السواء.

أما الحديث عن ارتباط التضخم بتدهور العملة، فالإشكالية تكمن في أن حالة التدهور ترجع إلى توسع في الطلب الكلي نتيجة توسع مالي حكومي، خاصة وأن سعر الصرف ما هو إلا "قناة" ومن الصعب أن يتحمل المسئولية عن التضخم كسبب جذري رئيسي، في ظل أن ذلك يفترض معه أن -سعر الصرف- تأثير خارجي بحت غير مرتبط بالتغول المالي على خلاف الواقع.

وفي تقديري فإن تطبيق هذه الفكرة التي اقترحها "هيكل" على امر الواقع بشكل فني سليم، تجعلنا أمام خيارين أولهما إضافة الأموال بالكامل إلى الحسابات النقدية/الاحتياطية لأصحاب الدين الأساسين -البنوك والمستثمرين الشركات والأفراد- لتعويضهم، وهو ما سوف يؤدي الى التضخم المفرط، والثاني تطبيق خصم أو ما يعرف بـ haircut، وهو ما يصنف العملية كنوع من التعثر المحلي، مما يؤدي إلى محو ما تبقى من المدخرات المحلية.

وفي كلا الخيارين سيحدث تضخم لن يبقي شيء أمامه، ينتهي بالوضع إلى دولة غير مديونة تحكم مجتمعا قد خسر كل ثروته ومدخراته، ونصبح قد ضحينا بالأم والجنين حتى يعيش الدكتور -الحكومة في حالتنا-.

ورغم أن الطرح قد يبدو ثوريا لما يحمله من إمكانية لإنقاذ الاقتصاد إلا أنه -لا محال- سوف ينهار تحت وطأة التمحيص الفني ودراسة الأثر، وعليه قبل أن يتم الاستغراق فيه أرى أن طارحه يحتاج إلى أمرين أولهما أن يرسم تسلسل مسار العملية المقترحة والعلاقة بين أطرافها بما في ذلك انتقال الأصول وحركة الأموال وآلية تقفيل الأرصدة، ثم دراسة الأثر المحتمل على المؤشرات من خلال محاكاة على نموذج اقتصادي Econometric Model، أما ما دون ذلك فهذا المقترح سوف يظل بلا جدية أو وجاهه للدراسة.

وختاما، فالحل الاقتصادي لا يتطلب أن يكون سحريا ومبتكرا يخرج عن الصندوق أو من الكم أحيانا، رغم أنه بشكل عفوي ومع تعاظم الأزمة نُجبر على التفكير في مثل هذه الأطروحات التي قد تحمل ظاهريا الخلاص بينما تحمل في طياتها إرهاصات اقتصادية بدائية الصنع، في حين أن الالتزام بأساسيات الإدارة وعلم الاقتصاد هو الأصوب والأقدر على الإنقاذ وحده والأجدى بالإتباع من أي حلول مهما بدت رنانة أو كما يطلق عليها أستاذنا الكبير الدكتور محمود محي الدين "الأفكار السيئة".

عبد الله السعيد
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق