أحمد الخميسي يكتب: العبودية الطوعية

الصباح العربي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

هذا مقال كتبه شاعر فرنسي منذ نحو خمسة قرون عندما كان شابا في الثامنة عشرة من عمره، وهو " إتيان دو لابويسي" الذي توفي ولم يبلغ سوى اثنين وثلاثين عاما وعدة أشهر( 1530-1563)، ولم ينشر المقال إلا بعد وفاته بفضل البروتستانت الذين وجدوا في المقال ضالتهم خلال معاركهم من أجل إسقاط النظام الملكي. وليس معروفا عن لابوسي غير القليل، أنه ولد في مدينة سارلات في 1530 لعائلة من القضاة والأرستقراطيين، ثم أصبح مستشارا للبرلمان بقرار من الملك هنري الثاني، وترك العديد من القصائد وذلك المقال الذي مازال بعد خمسة قرون علامة على شوق الانسان اللانهائي للحرية. عنوان المقال وموضوعه هو : " العبودية الطوعية" ترجمة صالح الأسمر، وفي الكتاب يصب الشاعر الشاب غضبه على الأنظمة الملكية والحكم المطلق في بلاده وغيرها، إلا أن صيحته تتجاوز ذلك إلى قضية الحرية بشكل عام، في كل زمان ومكان، وفي الوقت ذاته كان المقال نبوءة مبكرة بسقوط الأنظمة الملكية التي اختفت بعد ذلك من فرنسا بالإعلان عن الجمهورية في 1792، كما انهارت في هولندا، وفي إسبانيا 1873، وغيرها. ويتناول " لابوسي " بشتى الأمثلة التاريخية السر في خضوع الشعوب بإرادتها لحاكم فرد أيا كانت طريقة وصوله للحكم سواء أكان ذلك بالانتخاب أو بالقوة أو بالوراثة ويسمى ذلك " العبودية الطوعية" مؤكدا أن ما يميز الملوك الطغاة ليس حسن ادارتهم لشئون البلاد بل اعتياد الشعب على تحمل الاستعباد، ويقول في ذلك : " كل ما أريد أن أفهمه هو كيف أمكن لكثير من الناس والبلدات والأمم، والمدن أن تتحمل أحيانا وطأة طاغية لا يملك من القوة إلا ما أعطوه هم له ". ويضيف:" إن نقطة الضعف فينا نحن البشر، في أنه يتوجب علينا في معظم الأحوال أن نخضع للقوة، وأننا لا نستطيع أن نكون الأقوياء". ويشير " لابوسي" إلى عوامل أخرى تغذي العبودية الطوعية منها ذلك الخليط من الأفكار الدينية والخرافات الذي يستخدمه الحكام ويضرب مثلا على ذلك قائلا إن: " ملوك آ شور، ومن بعدهم ملوك ميديا، لم يكونوا يظهرون على الملأ إلا بعد مرور وقت لكي يبعثوا الشك في أذهان العوام ما إن كان الملوك بشرا ام شيئا آخر فوق البشر.. ولم يكن ملوك مصر يظهرون إلا وقد حملوا على رؤوسهم هرا تارة وغصنا تارة أخرى أو نارا ليبعثوا بذلك الاحترام والمهابة في نفوس رعاياهم.. أما ملوكنا في فرنسا فقد نشروا شعارات لا أدري ماهيتها مثل الضفادع والزنابق والقارورة المقدسة والشعلة الذهبية". وينوه بعامل آخر في تغذية تلك العبودية ألا وهو الفن والثقافة فيقول: " إن المسارح والألعاب والمساخر والمشاهد ، والبهائم الغريبة، والأوسمة، واللوحات، وأشياء أخرى من هذا القبيل كانت أشكالا من الطعوم لإبقاء الشعوب القديمة في فخ العبودية، وكان الطغاة القدامى يمتلكون هذه الوسائل لتنويم رعاياهم تحت النير"، ويشدد الشاعر الفرنسي على أن سر كل طاغية يكمن في إشراك فئة قليلة من المتملقين في الحكم بفتات من الامتيازات تلقى إليهم، فتستبق تلك الزمرة رغبات الطاغية ويحدسون ما يريد قبل أن يفصح هو عنه". ويتوقف لابوسي طويلا عند فكرة:" إن الطغاة لا يقترفون شرا إلا مهدوا له ببعض العبارات الجميلة عن المصلحة العامة ورفاهية الجماعة ". وقد مهد مقال الشاعر الفرنسي لتغيير نظام الملكية في أوروبا كلها إلى نظم جمهورية حديثة، ومع ذلك فإن الصيحة التي أطلقها المقال ظلت تمجيدا مبكرا للحرية الانسانية صانت اسم الشاب الفرنسي الذي لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة حين غمرت قلبه الأحلام بمستقبل أجمل.

صلاح جميل

الكاتب

صلاح جميل

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق