تضريب الاقتصاد الرقمي

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

شهد الاقتصاد الرقمي في المغرب نمواً ملحوظاً خلال العقد الأخير، مدفوعاً بالتطورات التكنولوجية السريعة والاعتماد المتزايد على الإنترنت والخدمات الرقمية في مختلف القطاعات. من التجارة الإلكترونية إلى الخدمات السحابية والتعليم عبر الإنترنت، أصبح الاقتصاد الرقمي جزءاً لا يتجزأ من المشهد الاقتصادي الوطني، ما جعله مصدراً مهماً للإيرادات وفرص العمل. ومع ذلك، فإن هذا النمو السريع يرافقه تحديات كبيرة على المستوى الضريبي، إذ يتطلب تضريب الأنشطة الرقمية إطاراً قانونياً وضريبياً حديثاً ومتوازناً.

في ظل غياب التشريعات الضريبية الملائمة، يواجه المغرب صعوبات في تطبيق الضرائب على الأنشطة الرقمية بشكل فعال. تشمل هذه التحديات تحديد الشركات الرقمية الأجنبية التي تقدم خدمات داخل المغرب، وصعوبة تتبع الإيرادات المتأتية من التجارة الإلكترونية، بالإضافة إلى التهرب الضريبي الذي يمكن أن يحدث بسبب الطابع غير المادي لبعض الخدمات الرقمية. علاوة على ذلك، فإن الاقتصاد الرقمي يتطلب بيئة تنظيمية تشجع على الابتكار وريادة الأعمال دون أن تكون عبئاً مالياً على الشركات الناشئة والمبتكرة.

في ظل هذه الظروف، تطرح الإشكالية الرئيسية التالية: كيف يمكن للمغرب تطوير نظام ضريبي فعال ومنصف لتنظيم الاقتصاد الرقمي، بحيث يحقق العدالة الضريبية ويضمن مساهمة كافة الفاعلين الاقتصاديين في الإيرادات الوطنية، مع الحفاظ على بيئة تحفز الابتكار والنمو الاقتصادي؟

أولا: أهمية تضريب الاقتصاد الرقمي في المغرب

يعد تضريب الاقتصاد الرقمي قضية مركزية لمختلف الحكومات حول العالم، بما فيها المغرب، نظراً للتوسع المتسارع في الأنشطة الرقمية وظهور منصات تكنولوجية عالمية ومحلية تسهم بشكل كبير في الاقتصاد الوطني. فمع تزايد حجم التبادل الرقمي، من التجارة الإلكترونية إلى الخدمات السحابية والإعلانات الرقمية، تظهر حاجة ملحة لإعادة تنظيم النظام الضريبي بحيث يكون قادراً على التكيف مع هذه التحولات الجديدة.

في ظل انتشار الاقتصاد الرقمي، يتزايد النقاش حول العدالة الضريبية، خصوصاً في ما يتعلق بالأنشطة الرقمية التي قد تهرب من النظام الضريبي التقليدي. يتطلب النظام الضريبي تحديثاً ليشمل الشركات الرقمية التي قد تعمل عبر الإنترنت دون أن يكون لها تواجد مادي دائم في المغرب.

كما أنه بدون نظام ضريبي واضح لهذه الأنشطة، قد تواجه الشركات التقليدية عبئاً ضريبياً غير متوازن مقارنة بالشركات الرقمية، مما يؤدي إلى عدم التوازن في سوق الأعمال.

كما أن الاقتصاد الرقمي يشكل العديد من الفرص، مثل زيادة الإيرادات الضريبية من الإعلانات الرقمية والتجارة الإلكترونية، ولكن لتحقيق ذلك يتطلب ذلك نظاماً ضريبياً عادلاً وفعالاً.

زيادة على كون تضريب الاقتصاد الرقمي يساعد في تنظيم السوق الرقمي ويشجع الشركات على الامتثال للقوانين المغربية، ما يعزز الشفافية والمنافسة العادلة. وفرض ضرائب على الشركات الرقمية سيجبرها على التصريح بإيراداتها الرقمية، مما يقلل من التهرب الضريبي ويضمن تنافسية عادلة مع الشركات المحلية.

يعتبر الاتحاد الأوروبي من أبرز النماذج في محاولة تضريب الاقتصاد الرقمي، حيث تم فرض ضريبة على الخدمات الرقمية (Digital Services Tax) بنسبة 3% على إيرادات الشركات الرقمية الكبرى مثل “Google” و”Amazon” التي تقدم خدماتها داخل الاتحاد الأوروبي. ويكمن الهدف الرئيسي من هذه الضريبة في ضمان أن الشركات الرقمية الكبرى تساهم بشكل عادل في الإيرادات الضريبية، خاصة وأنها تحقق أرباحاً كبيرة في الأسواق الأوروبية دون أن تكون لها قاعدة مادية ثابتة فيها.

كما فرضت الهند ضريبة على المعاملات الرقمية تعرف باسم “Equalisation Levy”، وهي تستهدف الشركات الأجنبية التي تقدم خدمات إعلانات رقمية للشركات الهندية. تبلغ نسبة الضريبة 6% على الدخل الذي تحققه الشركات الأجنبية من هذه الإعلانات. هذا النموذج يهدف إلى ضمان أن الشركات الرقمية الدولية التي تستفيد من السوق الهندي تدفع نصيبها العادل من الضرائب، على الرغم من أنها ليست مقيمة في الهند.

في الولايات المتحدة، تختلف السياسات الضريبية من ولاية إلى أخرى، إلا أن بعض الولايات مثل كاليفورنيا ونيويورك بدأت بفرض ضرائب على المبيعات الرقمية والخدمات الإلكترونية. هذا يهدف إلى تحصيل الضرائب من الأنشطة التي تتم عبر الإنترنت مثل شراء الكتب الإلكترونية أو الاشتراك في خدمات البث المباشر.

ثانياً: القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الرقمي المعنية بالتضريب

في السنوات الأخيرة، شهدت التجارة الإلكترونية في المغرب نمواً ملحوظاً بفضل انتشار الإنترنت والهواتف الذكية. المنصات المحلية والدولية مثل Jumia وAliExpress وغيرها، تشهد إقبالاً متزايداً من قبل المستهلكين المغاربة. فالأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالتجارة الإلكترونية تشمل بيع المنتجات والخدمات عبر الإنترنت، وهي تولد إيرادات ضخمة يستوجب إدخالها ضمن النظام الضريبي لضمان العدالة الضريبية.

لكن، من أبرز التحديات في تضريب التجارة الإلكترونية هو الطبيعة الدولية لهذه الأنشطة، حيث تعمل العديد من المنصات من خارج الحدود المغربية. تحصيل الضرائب من هذه المنصات يتطلب إطاراً قانونياً يتضمن اتفاقيات دولية لضمان عدم التهرب الضريبي. فالتهرب الضريبي في التجارة الإلكترونية يمكن أن يحدث بسهولة إذا لم تكن هناك آليات رقابية فعالة لتتبع العمليات المالية التي تتم عبر الإنترنت.

كما أن الإعلانات الرقمية تشكل مصدر دخل رئيسي لكثير من الشركات والمنصات الرقمية مثل Google وFacebook. الشركات العاملة في المغرب تعتمد بشكل متزايد على هذه المنصات للوصول إلى المستهلكين المحليين. هذه الإعلانات تستهدف الجمهور المغربي، ولكن الشركات المستفيدة غالباً ما تكون دولية، مما يطرح إشكالية في كيفية تضريب هذه الإيرادات.

إن هذه الإيرادات يجب أن تخضع للضرائب المحلية كونها تستهدف السوق المغربي، حتى لو كانت الشركات التي تدير الحملات الإعلانية دولية. هذا من شأنه أن يحقق عدالة ضريبية ويساهم في تنظيم السوق الإعلاني الرقمي.

كما يمكن تطبيق نموذج مشابه لضريبة الخدمات الرقمية (Digital Services Tax) المعمول بها في الاتحاد الأوروبي والذي قد يكون حلاً مناسباً، حيث تفرض ضريبة على الإيرادات التي تحققها الشركات الرقمية من الإعلانات داخل المغرب.

زيادة على أن العديد من الشركات المغربية والأفراد تعتمد على الخدمات السحابية مثل Microsoft Azure وAmazon Web Services (AWS) لتخزين البيانات وتشغيل التطبيقات. هذه الخدمات تولد إيرادات كبيرة للشركات الدولية. قطاع الخدمات السحابية يشمل أيضاً التطبيقات التي توفر خدمات متنوعة مثل برامج إدارة الأعمال، التعليم عن بُعد، وغيرها.

وبما أن العديد من هذه الخدمات يتم تقديمها من خارج المغرب، قد يصعب تتبع الإيرادات التي تحققها الشركات السحابية من العملاء المغاربة، مما يفتح الباب أمام التهرب الضريبي. فبعض هذه الخدمات قد لا تكون خاضعة للضرائب في النظام التقليدي لأنها تقدم بشكل غير ملموس (رقمي)، ما يتطلب تعديل النظام الضريبي ليتماشى مع طبيعة هذه الأنشطة الرقمية.

ثالثاً: التحديات التي تواجه تضريب الاقتصاد الرقمي في المغرب

إن التحديات التي تواجه تضريب الاقتصاد الرقمي في المغرب تعد واحدة من أكبر القضايا التي تتطلب تطويراً وإصلاحات على مستوى السياسات الضريبية. مع توسع الاقتصاد الرقمي وازدياد اعتماد الأنشطة التجارية على المنصات الرقمية، برزت عدة تحديات تتعلق بكيفية فرض الضرائب على هذه الأنشطة بطريقة عادلة وفعالة.

يعد التهرب الضريبي تحدياً كبيراً، خاصة في الأنشطة الرقمية حيث يصعب تتبع الإيرادات بشكل دقيق. العديد من الشركات الرقمية أو المؤثرين يعملون عبر الإنترنت بدون وجود مقرات ثابتة في المغرب، مما يجعل من الصعب على السلطات الضريبية تعقب الأنشطة وتحقيق الإيرادات الضريبية المستحقة.

كما أن التجارة الإلكترونية، الإعلانات الرقمية، والخدمات السحابية غالباً ما يتم إدارتها من خارج المغرب، مما يسهل على الأفراد والشركات التهرب من دفع الضرائب المحلية.

ونظراً لطبيعة الاقتصاد الرقمي العالمية، قد تكون الإيرادات ناتجة عن عمليات تجارية أو إعلانية تتم عبر الحدود، ما يصعب على الإدارة الضريبية تتبع الإيرادات بدقة. بالإضافة إلى ذلك، الكثير من المنصات الرقمية الكبرى مثل Google وFacebook تتعامل مع الشركات المحلية لكن تدير أنشطتها من خارج المغرب، مما يجعل من الصعب تحصيل الضرائب على الإيرادات الناتجة محلياً.

بالإضافة إلى أن معظم القوانين الضريبية الحالية في المغرب تم تطويرها للتعامل مع الاقتصاد التقليدي، وهي غير مهيأة بشكل كامل للتعامل مع الأنشطة الرقمية. مثلاً، لم يتم بعد تحديد كيفية فرض الضرائب على التطبيقات، الخدمات السحابية، والإعلانات الرقمية بشكل دقيق وواضح. فغياب الإطار القانوني الشامل لتنظيم الاقتصاد الرقمي يفتح المجال أمام الفجوات القانونية التي يمكن أن يستغلها العاملون في هذا القطاع للتهرب الضريبي.

كما لا يزال التعامل بالعملات الرقمية في المغرب يمثل تحدياً قانونياً وضريبياً. في حين أن هذه العملات تُستخدم بشكل متزايد في العديد من التبادلات الرقمية، لا تزال قوانين تضريبها غير واضحة، ما يؤدي إلى صعوبات في تتبع وتحصيل الضرائب المستحقة.

لذلك، تتطلب الرقابة الضريبية على الاقتصاد الرقمي تقنيات حديثة وأدوات متقدمة لتتبع العمليات الرقمية والمعاملات المالية الإلكترونية. نقص القدرات التقنية لدى الإدارة الضريبية قد يشكل تحدياً كبيراً في مواجهة التهرب الضريبي.

ومن الممكن الإشارة أيضاً إلى أن العديد من الشركات والمؤسسات الرقمية التي تحقق أرباحاً من السوق المغربي تعمل من دول أخرى. فرض الضرائب على هذه الشركات يتطلب تعاوناً دولياً واتفاقيات ضريبية تتيح للحكومة المغربية تحصيل الضرائب من الشركات الأجنبية. فغياب مثل هذه الاتفاقيات أو عدم تطبيقها بشكل فعال قد يؤدي إلى صعوبة فرض الضرائب على الأنشطة الرقمية العابرة للحدود.

رابعا: مقترحات لتطوير نظام ضريبي فعال للاقتصاد الرقمي
لتطوير نظام ضريبي فعال للاقتصاد الرقمي في المغرب، يجب اتخاذ مجموعة من التدابير والسياسات التي تراعي الطبيعة المعقدة والديناميكية لهذا القطاع. الاقتصاد الرقمي يضم أنشطة متنوعة مثل التجارة الإلكترونية، الإعلانات الرقمية، الخدمات السحابية، العملات الرقمية، والمؤثرين.

تحديث القوانين الضريبية: يجب على المشرع المغربي تحديث القوانين الضريبية لتواكب التطور السريع في الاقتصاد الرقمي. تشريعات واضحة تحدد الأنشطة الرقمية التي يجب أن تخضع للضريبة مثل التجارة الإلكترونية، الإعلانات، الخدمات السحابية، والعملات الرقمية.

صياغة قانون ضريبي مخصص للاقتصاد الرقمي: يتضمن بنوداً خاصة تميز بين الأنشطة المحلية والعابرة للحدود، وتوضح كيفية فرض الضرائب على الإيرادات الرقمية المحققة من السوق المغربي.

تحسين البنية التحتية الرقمية: تحتاج الإدارة الضريبية المغربية إلى أدوات تحليل بيانات متقدمة وتقنيات تتبع إلكترونية لمراقبة وتحديد الإيرادات الرقمية بشكل دقيق. يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الأنشطة الرقمية ومتابعة الإيرادات المتولدة من الاقتصاد الرقمي.

إنشاء منصات رقمية للتصريح الضريبي: إنشاء منصات رقمية تسهل للشركات والأفراد التصريح بالضرائب الرقمية بشكل مباشر، يساهم في تبسيط الإجراءات وتقليل التهرب الضريبي.

التعاون مع المنصات الرقمية الكبرى: يجب على المغرب التعاون مع المنصات الرقمية الكبرى مثل YouTube وAmazon لضمان شفافية الإيرادات المتحققة من السوق المغربي. يمكن أن تكون هذه الشراكة جزءاً من اتفاقيات دولية أو محلية تفرض على هذه المنصات مشاركة البيانات المالية المتعلقة بالمستخدمين والمعلنين في المغرب.

تطوير سياسات شاملة: لتحقيق نظام ضريبي فعال للاقتصاد الرقمي في المغرب، يجب تطوير سياسات شاملة تشمل تحديث الإطار القانوني، تحسين البنية التحتية الرقمية، وتعزيز التعاون الدولي. كما يجب تقديم حوافز للشركات الصغيرة وتشجيع الامتثال الضريبي من خلال تبسيط الإجراءات وتحفيز الشركات المحلية.

تحقيق هذه الأهداف يتطلب شراكة بين الحكومة، الشركات، والمنصات الرقمية لضمان عدالة ضريبية وإيرادات مستدامة للاقتصاد الوطني.

(*) أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل مكناس

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق