في التاسع من يناير 1960، انطلقت أعمال بناء واحد من أعظم المشاريع الهندسية في تاريخ مصر والعالم، مشروع السد العالي في أسوان, يعد هذا السد، الذي يعد رمزًا للتحدي والإرادة الوطنية، من أضخم المشروعات التي غيرت مجرى حياة المصريين بشكل جذري، حيث شمل أهدافًا متعددة أبرزها حجز فيضان النيل، وتخزين المياه، وتوليد الطاقة الكهربائية من خلال محطة ضخمة لتوليد الكهرباء.
تفاصيل المشروع
يبلغ طول السد العالي عند القمة 3830 مترًا، منها 520 مترًا بين ضفتي النيل، بينما يمتد الباقي على جانبي النهر, ويرتفع السد 111 مترًا فوق منسوب قاع النيل، بينما يتسع عرضه عند القمة ليصل إلى 40 مترًا.
كما بلغ حجم جسم السد 43 مليون متر مكعب من الإسمنت والحديد ومواد أخرى, وبفضل هذا الحجم الهائل، يستطيع السد تمرير تدفق مائي يصل إلى 11 ألف متر مكعب من المياه في الثانية الواحدة.
أما محطة الكهرباء، فهي تقع على الضفة الشرقية للنيل، حيث يتم تحويل المياه عبر ستة أنفاق مزودة ببوابات للتحكم في تدفق المياه، مما يسمح بتوليد طاقة كهربائية تصل إلى 10 مليار كيلو وات ساعة سنويًا.
بحيرة ناصر.. أكبر بحيرة صناعية في العالم
تعتبر بحيرة ناصر التي تشكلت خلف السد أحد المعالم الهامة لهذا المشروع, وتمتد البحيرة على طول 500 كيلومتر، وبعرض متوسط 12 كيلومترًا، حيث تغطي جزءًا كبيرًا من منطقة النوبة المصرية والسودانية, وتبلغ سعة التخزين الكلية للبحيرة 162 مليار متر مكعب من المياه، مما يجعلها واحدة من أكبر البحيرات الصناعية في العالم.
البداية والتحديات
بدأت فكرة السد العالي في عهد ثورة يوليو 1952، حيث كانت مصر بحاجة ملحة إلى مشروع ضخم يساهم في تنمية البلاد بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني, قدم المهندس اليوناني المصري الأصل، أدريان دانينوس، فكرة بناء السد، والتي لاقت قبولًا من الحكومة المصرية، حيث بدأت الدراسات اللازمة في عام 1952, وفي عام 1954 تم اعتماد التصميم النهائي للسد.
التعاون مع الاتحاد السوفيتي
في 1958، وقعت مصر اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي للحصول على قرض قدره 400 مليون روبل لتمويل بناء السد، وهو ما مهد الطريق للبدء الفعلي في العمل في 1960, كما تم توقيع اتفاقية مع السودان في عام 1959 بشأن توزيع مياه خزان السد.
الإنجازات والتقدير الدولي
في مايو 1964، تم تحويل مجرى النيل إلى قناة التحويل والأنفاق، وتم البدء في تخزين المياه في بحيرة ناصر، ليبدأ السد في أداء مهمته التي استمرت حتى يومنا هذا, ومنذ الانتهاء من بناء السد، حقق مشروع السد العالي العديد من الإنجازات، ليس فقط في توفير الطاقة الكهربائية، ولكن أيضًا في تحسين الزراعة، وتقليل المخاطر الناتجة عن فيضان النيل.
اكتمال البناء وتشغيل محطة الكهرباء
في المرحلة الثانية من المشروع، تم استكمال بناء جسم السد حتى نهايته، بالإضافة إلى بناء محطة الكهرباء وتركيب التوربينات وتشغيلها, وكان بداية تشغيل محطة الكهرباء في أكتوبر 1967، ليبدأ تخزين المياه بالكامل أمام السد في عام 1968, وبتاريخ 15 يناير 1971، تم الاحتفال بافتتاح السد العالي في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ليُصبح السد ركيزة أساسية في حماية مصر من الفيضانات والجفاف.
التحول الكبير في الزراعة والطاقة
قبل بناء السد، كانت مصر تعاني من مشاكل كبيرة بسبب الفيضان السنوي، الذي كان يسبب أضرارًا جسيمة للمحاصيل الزراعية, لكن مع اكتمال السد، تغيرت الأوضاع بشكل جذري, أصبح السد يوفر المياه بشكل دائم للزراعة، ويُحول الزراعة من موسمية إلى دائمة، مما ساعد على استصلاح الأراضي وزيادة المساحات المزروعة من 5.5 مليون فدان إلى 7.9 مليون فدان.
كما أن السد ساهم في تحسين القدرة على زراعة محاصيل أخرى مثل الأرز وقصب السكر، التي تتطلب كميات كبيرة من المياه، وأدى إلى تحول نظام الري من الري الحوضي إلى الري الدائم, من ناحية أخرى، وفر السد الطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيل المصانع وإنارة المدن والقرى، كما أسهم في زيادة الثروة السمكية عبر بحيرة ناصر، وتحسين الملاحة النهرية على مدار العام.
التصدي لمخاطر الجفاف والفيضانات
أحد أبرز الفوائد التي جلبها السد كان حماية مصر من مخاطر الجفاف والمجاعات, في سنوات الفيضانات الشحيحة، مثل الفترة من 1979 إلى 1987، تم سحب حوالي 70 مليار متر مكعب من مياه بحيرة ناصر لتعويض النقص في الإيراد الطبيعي لنهر النيل, كما حمى السد مصر من أخطار الفيضانات المرتفعة، التي وقعت في الفترة من 1998 إلى 2002.
التحديات والأضرار
رغم الفوائد الكبيرة للسد، إلا أن هناك بعض التحديات والأضرار التي نتجت عن بنائه, من أبرز هذه الأضرار هو تقليل خصوبة الأراضي الزراعية في مصر، نتيجة حجز السد للطمي الذي كان يُجدد خصوبة التربة سنويًا, هذا الأمر أدى إلى زيادة الاعتماد على الأسمدة ورفع تكلفة المحاصيل.
كما أن توقف تدفق الطمي إلى مصبات النهر في دمياط ورشيد أصبح يشكل خطرًا كبيرًا على الدلتا بسبب عمليات النحر والتآكل، ما يزيد من تهديد غرق الدلتا نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطبين.
علاوة على ذلك، أسفر بناء السد عن غرق العديد من المواقع الأثرية الهامة، وفقًا لتقارير من "ناشيونال جيوغرافيك"، كما تسببت بحيرة ناصر في تهجير أكثر من 50 ألف شخص من أبناء النوبة في مصر والسودان، الذين فقدوا موطنهم الأصلي.
السد العالي.. نقطة تحول في تاريخ مصر
ورغم هذه التحديات، يظل السد العالي واحدًا من أعظم المشاريع الهندسية في تاريخ مصر، ومن أبرز إنجازات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, فقد أحدث السد نقلة نوعية في التنمية الزراعية والصناعية في البلاد، وساهم بشكل كبير في تحسين حياة المصريين وحمايتهم من الأضرار التي كان يسببها الفيضان والجفاف على مر العقود.
وقد تم تصنيف السد العالي من قبل الهيئة الدولية للسدود كأعظم مشروع هندسي في القرن العشرين، ليصبح رمزًا للإرادة والتفوق الهندسي المصري.
اليوم، ومع مرور 60 عامًا على بداية بناء السد العالي، لا يزال هذا المشروع الضخم يشكل رمزًا للفخر الوطني، ويستمر في تقديم العديد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية، في ظل التحديات الجديدة التي يواجهها, ويظل السد العالي شاهدًا على عظمة الإنجاز المصري وعزيمة شعبه، وهو ليس فقط معلمًا هندسيًا، بل هو مصدر حياة ومصدر فخر للأجيال الحالية والقادمة.
0 تعليق