أصبح قرار رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا حديث الشارع عقب إعلان حكومة شرق البلاد، المُكلّفة من مجلس النواب، موافقتها على مقترح لتنفيذه، ما فتح الباب أمام تساؤلات حيوية بشأن تداعيات هذا القرار على اقتصاد البلاد ومستقبل مواطنيها.
ففي ظل انقسام سياسي ومؤسسي يعيشه البلد العربي الأفريقي منذ سنوات، يُطرح هذا القرار بوصفه حلًا جذريًا لأزمات متراكمة تتعلق بتهريب الوقود والهدر في الإنفاق الحكومي، لكن تبرز تساؤلات حول مدى قدرة الاقتصاد الليبي على تحمُّل أعباء هذا التغيير الجذري.
ووفقًا لمسح أجرته منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، يباع الوقود في ليبيا مدعومًا، إذ تُعدّ ثاني أرخص دولة في أسعار البنزين عالميًا بسعر 0.150 دينارًا (0.031 دولارًا أميركيًا) للّتر.
ومع ذلك، فإن هذا الدعم الضخم يُعدّ غير فعّال بسبب انتشار ظاهرة تهريب الوقود، التي تسبّب خسائر تصل إلى 5 مليارات دولار سنويًا، لذا، يُنظر إلى قرار رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا بصفته حلًا ضروريًا، لكن تطبيقه دون خطة واضحة قد يؤدي إلى أزمات أعمق.
على جانب آخر، فالحكومة مُصدِرة القرار (والتي لا تحظى باعتراف دولي) لم تقدّم تفاصيل حول الآليات التنفيذية أو السياسات البديلة للتخفيف من تداعياته، كما أن التجارب السابقة في البلاد أثبتت أن قرارات مماثلة كانت تواجَه برفض شعبي واسع، ما يجعل من رفع الدعم عن المحروقات قضية شائكة تتطلب تخطيطًا دقيقًا وتنفيذًا متدرجًا.
أيضًا، يعاني المواطن الليبي من تدهور في الخدمات الأساسية، ما يثير مخاوف من أن يؤدي رفع الدعم إلى زيادة العبء على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وفي ضوء هذه المعطيات، يبقى السؤال الرئيس: "هل يُمكن لحكومة أسامة حماد أن تُنفّذ هذا القرار دون أن تتسبب في موجة جديدة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية؟".
* الدولار الأميركي = 4.91 دينارًا ليبيًا.
تكلفة دعم المحروقات في ليبيا
تُظهر بيانات الموازنة العامة للبلاد أن تكلفة دعم المحروقات في ليبيا بلغت، عام 2023، نحو 4 مليارات دينار (835.49 مليون دولار)، وفق متابعة منصة الطاقة المتخصصة.
وليبيا من الدول التي تقدّم دعمًا سخيًا للطاقة -البنزين والكهرباء-، إذ استحوذ الدعم على نحو 9.3% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط، في المدة ما بين 2015 - 2023، وفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي.
وعلى الرغم من ضخامة الإنفاق، فإن النظام ضعيف الفاعلية ولم يمنع تفاقم الأزمات، إذ يُستغل الدعم في تغذية السوق السوداء وتهريب الوقود إلى دول الجوار، في الوقت الي تُعاني فيه بعض المناطق، لا سيما في الجنوب، من نقص شديد في الوقود، ما يدفع السكان إلى شرائه من السوق السوداء بأسعار تصل إلى 7 دنانير (1.43 دولارًا) للّتر.
وخلال المدة ما بين عامي 2012 و2017، أُنفق نحو 30 مليار دولار أميركي لدعم المحروقات في ليبيا، مع تفاقم عمليات التهريب المنظم للوقود
ويُشكّل التهريب 30% من إجمالي قيمة ذلك الدعم، بحسب تقرير صادر عن ديوان المحاسبة الليبي عام 2017، طالعته منصة الطاقة المتخصصة.
تهريب الوقود في ليبيا
رغم الانتقادات، يرى بعضهم أن رفع الدعم عن المحروقات قد يُسهم في معالجة بعض التحديات، مثل تقليص عمليات تهريب الوقود في ليبيا، وتوفير أموال كبيرة يمكن توجيهها إلى قطاعات أخرى، كالتعليم والصحة والبنية التحتية، كما أنه قد يُحفّز الحكومة على تحسين كفاءة إدارة الموارد.
في المقابل، يؤكد آخرون أن سلبيات القرار تفوق إيجابياته، إذ يصف الخبير بقطاع النفط والغاز الليبي، المهندس عيسى رشوان، قرار رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا بأنه "ارتجالي وغير مدروس"، مشيرًا إلى أن الحكومة، مصدِرة القرار، لم تضع آليات واضحة لتنفيذ القرار.
وأوضح رشوان، في تصريحات إلى منصة الطاقة المتخصصة، أن رفع الدعم سيؤدي إلى زيادة أسعار الوقود بشكل كبير، ما سيؤثّر في تكلفة النقل والكهرباء والصناعات الغذائية، من ثم سيزيد من معاناة المواطنين ويُفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما في ظل ارتفاع معدلات التضخم.
وعدّ الخبير النفطي قرار رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا هروبًا من مواجهة المشكلة الرئيسة، قائلًا: "الحكومة وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة تهريب الوقود والمحروقات وكارتلات التهريب والمهربين، فانتهجت سياسة إدارة الأزمة بالأزمة".
تداعيات رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا
عند رصد تداعيات رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا، تبرُز توصية البنك الدولي، في تقرير أصدره عام 2015 ، بضرورة خفض الدعم في ليبيا تدريجيًا وليس بشكل مفاجئ، مشيرًا إلى أن الرفع الكامل للدعم قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.
وأكد التقرير أن إلغاء الدعم الكامل على الغذاء والوقود من شأنه أن يرفع معدل الفقر بنحو 17.7%، لكن تقديم الدعم النقدي المباشر للمواطنين سيكون كافيًا لاستقرار معدلات الفقر.
ومن المتوقع أن تكون تداعيات رفع الدعم واسعة النطاق، تشمل جميع قطاعات الاقتصاد الليبي، فمع ارتفاع أسعار الوقود، ستتأثر القطاعات الإنتاجية والخدمية، ما يزيد من تكلفة المعيشة ويُثقل كاهل المواطنين، خاصة الفئات الأكثر ضعفًا.
كما يتوقع الخبير عيسى رشوان أن يؤدي القرار إلى ارتفاع كبير في معدلات التضخم، وتعثُر الحكومة في دفع المرتبات أو تأمين ميزانيات مستقرة.
وعلى الصعيد السياسي، يخشى رشوان أن يُفاقم القرار من حالة الانقسام السياسي والمؤسسي في البلاد، لا سيما في ظل وجود حكومتين متنافستين، وغياب رئيس للدولة، وعدم وجود خطة وطنية موحدة.
محاولات رفع الدعم
محاولات رفع الدعم عن المحروقات ليست جديدة، ففي عهد نظام معمر القذافي، طُرِحت خطط للإصلاح، لكنها لم تُنفَّذ بسبب المخاوف من الاضطرابات الاجتماعية.
كما حاولت الحكومات الانتقالية بعد 2011، منها المؤتمر الوطني العام، تنفيذ إصلاحات مماثلة، لكنها اصطدمت بمعارضة شعبية واسعة.
وفي هذا السياق، أكد رشوان أن قرار رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا مرفوض شعبيًا منذ عهد نظام معمر القذافي، وأيضًا في عهد الحكومات الانتقالية التي تعاقبت على إدارة البلاد، منذ عام 2011.
وفي يناير/كانون الثاني 2024، أعلنت حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، عزمها استبدال دعم الوقود بتحويلات نقدية، لكنها تراجعت عن القرار بسبب الاحتجاجات الشعبية.
ويُظهر هذا التاريخ الطويل من المحاولات الفاشلة أن ملف الدعم في ليبيا يُمثّل قضية حساسة يصعب التعامل معها دون خطة شاملة ومتكاملة تراعي مصالح المواطنين.
غموض مستقبل قرار رفع الدعم
يرى رشوان أن قرار رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا يبدو وكأنه "بالون اختبار" من جانب الحكومة المكلفة من مجلس النواب لقياس ردّ فعل الشارع.
وبشأن التوقعات حول إمكان تنفيذ رفع الدعم عن المحروقات، يرجّح رشوان أن القرار قد يُلغى أو يُنسى أو يُطعَن في شرعية الجهة المُصدِرة، لا سيما إذا واجه معارضة شعبية واسعة.
وفي ظل الانقسام السياسي والمؤسسي، إذ يوجد المصرف المركزي ومقرّ مؤسسة النفط في طرابلس، بينما تعمل الحكومة مُصدِرة القرار من بنغازي، يبدو مستقبل قرار رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا غير واضح.
وتجدر الإشارة إلى تصريحات سابقة لرئيس لجنة الطاقة والموارد الطبيعية بمجلس النواب الليبي، عيسى العريبي، في يناير/كانون الثاني الماضي، أكد خلالها أن رفع الدعم عن الوقود تقرّره الميزانية العامة التي يقرّها مجلس النواب.
وأكد العريبي أن رفع الدعم عن المحروقات في ليبيا دون دراسة معمّقة سيؤثّر بالمواطن العادي، لا سيما في أمور النقل عمومًا، ومن ثم سيسهم في ارتفاع الأسعار.
وأشار إلى أنه إذا تقدّمت الحكومة المعترف بها من مجلس النواب بمقترح بهذا الخصوص، فإن المجلس سيعدّل الموازنة بحيث تأخذ في الحسبان أصحاب الدخل المحدود.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
المصادر..
0 تعليق