نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التربية في زمن مسخ المفاهيم!, اليوم الأحد 1 يونيو 2025 10:45 مساءً
تتردد في مجالس الآباء والمربين نقاشات مستفيضة حول الطرق الفعالة لتربية الأبناء، إلا أن معظم هذه النقاشات يغلب عليها السطحية والجدل العقيم، مما يجعلها غير مجدية، إن لم تكن سببًا في تمرير رسائل خاطئة حول قضية بهذه الحساسية. ومع ذلك، يمكن اعتبار هذه السجالات ظاهرة صحية، إذ لا يمكن تصور والد لا يشغله هذا الهم، وإلا لكان حاله أشبه بالحيوانات التي لا تربطها بصغارها سوى العلاقة البيولوجية، مع فارق أن الحيوان لا يفعل ذلك عن وعي، بخلاف الإنسان.
كثيرون يصرّون على مقارنة الطفل الأوروبي بنظيره الشرقي أو العربي، وبدرجة أقل مقارنة طفل المدينة بطفل البادية. الأول يتمتع بامتيازات مادية عديدة، تشمل الملبس والمأكل والمأوى، إضافة إلى وسائل تعليمية وصحية جيدة وشروط رفاهية عالية، وذلك يعود أساسًا إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول أو البيئات الجغرافية، لذا فإن هذه المقارنة لا تعنينا في هذا السياق. لكن اللافت هو أن الطفل الأوروبي يحظى أيضًا بعناية معنوية فائقة، تشمل أسلوبًا لينًا في الكلام، وعطفًا واحتواءً ودعمًا وحبًا بالغًا، وهنا يكمن بيت القصيد. إذ بات مفهوم التربية اليوم، وفق نظرة الكثير من الآباء، مقتصرًا على تقليد هذه الصورة النمطية، حيث يرون أن توفير المأكل والمشرب ومظاهر الرفاه المادي هو جوهر التربية، بغض النظر عن الوسائل المستخدمة لتحقيق ذلك، ما دامت الغاية تبررها. إلى جانب هذا، يلجأ البعض إلى تدليل الطفل وإشباع كل رغباته، اعتقادًا منهم أن ذلك من مظاهر الحنو والرأفة، دون أي مراعاة لخصوصياته العمرية أو احتياجاته النفسية والقيمية والتربوية.
هذا النهج المغلوط أفرز آباءً باتوا مستعدين لتلبية أي رغبة طفولية لأبنائهم، وتزويدهم بكل ما يجعلهم في مظهر المتنعمين ماديًا، حتى لو كان ذلك على حساب متطلبات أكثر أهمية. لقد أدى هذا إلى سباق مجتمعي محموم نحو استعراض مظهري مقيت، يذهب ضحيته الأطفال الذين ينشأون على مبدأ خطير: إشباع النزوات بأي ثمن، والانقياد لرغباتهم، حتى لو كانت في غاية القبح والفساد.
ولعل الكثير من هؤلاء الآباء يتجاهلون، عمدًا أو عن جهل، تفصيلًا بالغ الأهمية، وهو أن الطفل في المجتمعات الغربية ينال من الصرامة والتوجيه بالحوار والتكرار والإقناع والقدوة، تمامًا كما ينال من الحنو واللين. وهذا ما يغفله الجيل الجديد من الآباء، الذين يدعون إلى الفضائل باندفاع، بينما يغضّون الطرف عن الرذائل ببطء، وأحيانًا بقبول ضمني، أمام أبنائهم، إن لم يكونوا أصلًا غير معنيين بغرس القيم فيهم.
لقد أدى هذا الخلط الفادح بين المفاهيم التربوية إلى انفلات سلوكي واسع النطاق، نتج عنه جيل لا يعرف للوقار والاحترام سبيلًا، لا تجاه آبائهم، ولا جيرانهم، ولا أساتذتهم. فتجدهم يشتمون، ويصرخون، ويمدون أيديهم، ويمارسون العنف تجاه كل من يحاول الإشارة إلى اعوجاج مسلكهم.
من المؤكد أن الطفل يحتاج إلى الرعاية والعطف، سواء على المستوى المادي أو المعنوي، لكنه يحتاج قبل ذلك إلى الصرامة والحزم في التمييز بين الصواب والخطأ، وبين القيم النبيلة والانحرافات السلوكية. لا ينبغي أن يكون اللين مبررًا للاستسلام أمام النزوات، ولا يُفترض أن يؤدي الحنو إلى إغفال الحاجة إلى التربية القيمية الصحيحة. الطفل المتعلم الذي نطمح لأن يكون نموذجًا للتهذيب والاستقامة والصدق والنزاهة والالتزام، لا يمكن أن ينشأ وسط تربية متساهلة تتسامح مع السلوكيات الطائشة بدعوى الحب والشفقة. فالتراخي في هذا المجال هو منشأ الانحراف، وأساس كل الظواهر التي تجرّد المجتمع من احترامه وانضباطه.
لا يتعارض حب الأطفال مع تأديبهم، تمامًا كما لا يتعارض ري الشتائل مع تصويب اعوجاج سيقانها، وتشذيب أغصانها كي تنمو مستقيمة وقوية، وما ينسحب على النبات، بفساده لكثرة ريّه كما للتقصير في ذلك، ينسحب على الطفل الذي يفسده اللين الزائد كما تفسده القسوة المفرطة.
إن التربية ليست مجرد توفير متطلبات العيش، بل هي قبل كل شيء بناء شخصية سوية قادرة على التفاعل مع المجتمع بأخلاق واحترام ومسؤولية، ومهارة الكياسة بين الشد والجذب، والاعتدال في التقويم والتصويب.
0 تعليق