جيش من طين منحوت .. وثائقي ينبش قبر الزعيم المؤسس لإمبراطورية الصين

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نبشَت نيتفليكس قبر الزعيم المؤسس لإمبراطورية الشمس لتشكك في الرواية الرسمية المجيدة والواضحة والمكرورة لنشأة إمبراطورية الصين. (Les Mystères des guerriers de terre cuite) 2024 للمخرج جيمس توفل James Tovell.

تعيد الأركيولوجيا كتابة التاريخ الصيني بالوثائق المدفونة، بالطين المطهو وعظام المقبرة. يروي الطين والخشب والفحم والبرونز والعظام سيرة إمبراطور ظالم أرغم 700 ألف سجين ليبنوا له مدفنا فخما ليخلُد. كانت كلفة الدفن أعلى من كلفة الحياة، كما في كلفة بناء الأهرامات.

هنا، يروي الطين والعظام وقائع فجر التاريخ كما في وثائقي (Les Secrets de la tombe de Saqqarah) 2020 للمخرج نفسه. ما تكشفه المقابر عن الشعوب أوثق مما يرويه المؤرخون.

صنع السجناء الكادحون مجدا عسكريا بحرس إمبراطوري منحوت بالطين المطهو… تم نحت الجنود بدل رسمهم. يمثل النحت تجسيما للجانب الجمالي لمشهد البلاط بعد الموت. تم نحت الجنود في محاكاة تبلغ حد المطابقة. النحت هو نقيض المسطح PLAT ، تم تصميم سقف القبر الواسع ليشبه سماء الليل، وبذلك تم تجسيم الهوس الإمبراطوري بالمجد.

لضمان الخلود أكثرَ الإمبراطورُ من استخدام الزئبق، فقتله. لسخرية التاريخ، مات الإمبراطور بعيدا عن قبره الجاهز، فنُقلت جثته وسط السمك المتعفن لإخفاء رائحة الجسم المتحلل. أذله الموت كما أذل قارون، الذي يُروى أنه تخفّى في جوف حصان ميت لكي لا يُدركه الموت؛ وأدركه، فأخذه، وانتشرت رائحة الحكاية.

لقد تراجع الخوف من الموت في العصر الحديث، بفضل الطب وتحسن التغذية. لذلك، لا يهتم أحد بمراسيم دفن جاره. لقد غلب حب الحياة على الخوف من الموت؛ فتراجع تأثير الكهنة، وكثر تجّار المتع والتسلية. لكن لآلاف السنين، كانت للموت ولمراسيم الدفن قيمة كبيرة في كل الثقافات، كما يظهر ذلك في “كتاب الموتى” الفرعوني وكتاب “مسامرات الأموات” الإغريقي وكتب “أهوال القبور” العربية.

تعيد الأركيولوجيا كتابة التاريخ الصيني بناء على لُقى حقيقية، وجد علماء الآثار في الطين والخشب والبرونز والعظام أدلة موثوقة لسرد وتفسير ما جرى. يكشف البحث أن عظام الموتى لا تكذب كما يكذب المؤرخون، يكشف نقص الكالسيوم حقيقة عظام الكادحين. في الأبحاث الأركيولوجية التي تستعين بالتكنولوجيا الطبية مات الخدم في سن الثلاثين ومات الأسياد بعد سن الستين.

بحث جنائي في مقبرة

يفيد منهج البحث الجنائي لكشف الأدلة الميدانية كما في فيلم بوليسي… العظم وثيقة صادقة تخبر (بفضل كيمياء الكاربون المُشع) عن عمر الخادم وعمر الإمبراطور وشكل عمودهما الفقري هل هو مستقيم أم مقوس مع فرط طول زمن الانحناء للكدح.

يرقد الموتى بجانب الأواني. لذلك، تأتي الحقائق من المقتنيات الأثرية في المدافن.

يعكس التنقيب الأركيولوجي هوس الشعوب بمعرفة ماضيها بالأدلة العلمية؛ لأن الشك وحرب الإيديولوجيات دمّرَا مصداقية الروايات الطهرانية المُؤسِّسة. كُتبت روايات التأسيس السياسي وحتى الديني بشكل متأخر؛ لذلك فهي انتقائية ومؤدلجة.

تضع نظرية المعرفة التاريخ في مختبر، تستخدم منهجا تجريبيا، تفحص العظام لمعرفة نوع التغذية ونواقصها… يتِم تشريح الماضي لفهم الحاضر، يصير الماضي المنتهي إلى مصدر فخر أو عار.

هذا وثائقي يخدش سيرة العاهل المؤسس. في عمل فني آخر قدمت نيتفليكس صورة مريعة لنظام الحكم الإمبراطوري الصيني في مسلسل “ماركو بولو المسافر” (إخراج أسبن ساندبرغ بُث بين 2014 و2016 وما زال على المنصة). تم تحويل الماضي إلى مصدر تشويق. ماضٍ بشع إذن حاضر صيني بشع، كما في الفيلم السيري “الإمبراطور الأخير” 1987 للمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي.

" frameborder="0">

شرب الإمبراطور الزئبق ليخلد، حسب كتاب براين فيغن “مختصر تاريخ الأركيولوجيا”، (ترجمة أحمد الزبيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2019 ص 350). استهلك الإمبراطور مادة الخلود حسب فهمه، فقتلته. بعدها، صار الإمبراطور عظيما بالنسبة لمن عثروا على بقايا قبره. كشف البحث الأركيولوجي دليل العظمة الطيني، الدليل الأدبي لتنظير عظمة الحروب الصينية هو كتاب سان تزو “فن الحرب”.

تعيد الأركيولوجيا كتابة تاريخ البشرية بالمجرفة لا بالقلم، وتعيد النظر في الكثير من الادعاءات السائدة؛ أخطرها المركزية الحضارية الغربية. تتشابه روايات تأسيس الدول في تمجيد البطل المؤسس، لكل تأسيس رواية مجيدة وروايات دموية يطمسها المؤرخون الرسميون… تعزز الرواية الذهبية المجيدة الولاء والوطنية وانسجام الشعب.

يمكن لكل قارئ لهذا التحليل أن يفحص هذا التمجيد في إعلام بلده. يضع الفيلم الوثائقي الجديد رواية التأسيس الصينية المجيدة موضع شك، ما سمي نصرا مجيدا كان ثمرة مذبحة رهيبة بين الأمراء الأشقاء. السيف هو مؤسس الدولة.

ماذا تقول مملكة الموتى الصينية عن البلد؟

وحدها الممالك المحاربة تصمد وهي تُرغم السجناء والعبيد على العمل. حسب وِل وايريْل ديورانت، “الحروب هي التي تخلق الرئيس وتخلق الملك وتخلق الدولة”، كتاب “قصة الحضارة”، ص 41.

شعار الزعيم.. اشغل الجماهير قبل أن تشغلك

تمّ اكتشاف سر الضريح سنة 1974، بالتزامن مع ما سماها ماو تسي تونغ “الثورة الثقافية” التي أرغمت مثقفي المدن ونخبها على العودة إلى الحقول، أرغمها على الكدح والموت لتهتف له الشبيبة بالخلود.

هل يشبه الحاضر الماضي شبه الماء بالماء؟

لتخمين حجم القهر الذي تطلبه، نحت الحرس الطيني كان هناك 700 ألف سجين يكدحون لبناء قبر الإمبراطور. كان جلالته يبالغ في الأحكام لإرغام الشعب على الحفر. يستحسن أن يكون السجناء فنانين في نحت الطين. لم يكن العمال يحفرون بسعادة، بقراءة وقائع سياسية، وحدها الممالك المحاربة تصمد والأنبياء المسلحون ينتصرون. وبالنظر إلى ما فعله زعيم الصين ماوتسي تونغ بالجماهير، وما فعله زعيم الخمير الحمر في كمبوديا، وما فعله غاندي بالهنود؛ يبدو أن قادة الشعوب ذات الكثافة العالية يبتكرون حيلا لشَغل الجماهير وتوظيفها بكثافة.

إن فن الحرب هو عنف إكراه، لا تكدح الجماهير إلا مرغمة. ولا عزاء للسياسيين الرومانسيين. لولا هذا القهر السياسي الذي يضمن الخضوع لما كانت الصين الآن دولة موحدة على حوالي 10 ملايين كيلومتر مربع؛ بينما أوروبا فيها 50 دولة تتنازع على المساحة نفسها. في إسبانيا تريد برشلونة أن تصير دويلة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق