عبد المجيد الشرفي: الفهم السائد عن الله "خاطئ".. والمسلم لا يحتاج إلى فقهاء

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تمسّك المفكر التونسي البارز عبد المجيد الشرفي بالطرح الذي عرض له في كتابه الأخير “البداهات الزائفة في الفكر الإسلامي” بخصوص أن المعلوم من الدين بالضرورة “مفهوم فضفاض”، موضحا بخصوص قضية وجود الله أن “التصور الشائع لله لدى شرائح كثيرة من المجتمعات الإسلامية متلبس بقدر لا بأس به من التجسيم والتشبيه من جهة، وأنه من جهة أخرى متأثر بالمقولات الكلامية الكلاسيكية القديمة والمعروفة بـ”دقيق الكلام”.

وقال الشرفي، ضمن حواره مع هسبريس، إن “هذه المقولات معتمدة على المعارف الخاصة بالفيزياء والفلك في الوضع السابق للحداثة، وقد تجاوزتها الثورة العلمية التي أنجزها الإنسان في القرون الأخيرة ومنذ القرن التاسع عشر بالخصوص”، مسجلا أن “التفكير الإسلامي والتوحيدي عموما في حاجة إلى ألا تكون بينه وبين المعرفة العلمية الحديثة قطيعة، باعتبار أن تلك القطيعة قد تؤدي إلى العدمية أو إلى انفصام الشخصية”.

ودافع العضو المشارك بأكاديمية المملكة المغربية عن وجهة نظره بخصوص “نهاية الحاجة” إلى الفقهاء في العصر الحالي للقيام بدور الوساطة بين المسلم وبين النص الديني، قائلا إن الوضع الراهن “مناسب للحرية الفردية والمسؤولية الشخصية اللتين تتميز بهما الرسالة المحمدية. ولا حاجة لدى المسلمين إلى الوسطاء الذين قد يُحتاج إليهم في ديانات أخرى. وفي هذه الحالة يكون دور الأسرة والمدرسة دورا محوريا، فهما المؤسستان اللتان تقع على عاتقهما مسؤولية غرس القيم الإسلامية الأساسية دون أن يكون لأحد، أيا كان، حق الوصاية على ضمائر المؤمنين”.

نص الحوار:

أريد أن ننطلق في حوارنا من اعتبارك أن مفهوم “المعلوم من الدين بالضرورة” فضفاض، خصوصا حين تطرقت لمسألة وجود الله واتباع السنة؛ ما قد يلاحظ أنك ربما تعبّر عن ذلك بـ”لغة قاسية” قد لا تدفع القارئ المسلم إلى المعقولية الحديثة بقدر ما ستغرقه في التجديف. ألم تكن على بينة بذلك؟

التجديف لغة هو الكلام عن الله بالإساءة والإهانة، وما أبعد إعادة النظر في مفهوم “المعلوم من الدين بالضرورة” وما يترتب على استعماله استعمالا عشوائيا عن التجديف الذي أرفضه مبدئيا وعمليا! ولا أظن أن ثمة من الباحثين أو الملاحظين الجديين من ينكر أن التصور الشائع لله لدى شرائح كثيرة من المجتمعات الإسلامية متلبس بقدر لا بأس به من التجسيم والتشبيه من جهة، وأنه من جهة أخرى متأثر بالمقولات الكلامية الكلاسيكية القديمة والمعروفة بـ”دقيق الكلام”؛ وهي مقولات معتمدة على المعارف الخاصة بالفيزياء والفلك في الوضع السابق للحداثة، وقد تجاوزتها الثورة العلمية التي أنجزها الإنسان في القرون الأخيرة ومنذ القرن التاسع عشر بالخصوص. فما قصدته، إذن، ليس سوى لفت النظر إلى أن التفكير الإسلامي والتوحيدي عموما في حاجة إلى ألا تكون بينه وبين المعرفة العلمية الحديثة قطيعة، باعتبار أن تلك القطيعة قد تؤدي إلى العدمية أو إلى انفصام الشخصية.

وينطبق نفس التمشي على اتباع السنة وعلى غيره من المواضيع التي تُحشرُ عادة في نطاق المعلوم من الدين بالضرورة، أي التنبيه إلى تاريخيتها وإلى حاجتها إلى المراجعة على ضوء هذه الصبغة التاريخية، إذ لا جدوى تُنتظر من الخوف من طرح هذه المسائل على بساط الدرس ومن تكميم الأفواه التي تنبه إلى ما هو إشكالي ولو كان محرجا في بعض الأحيان للضمير الديني العمومي. إن كرامة الإنسان تقتضي عندي مواجهته للحقائق بكل جرأة وشجاعة، لا سلوكه سلوك النعامة التي تدس رأسها في التراب عندما يداهمها الخطر. وهذا مع الأسف هو ما تكرسه الأدبيات الإسلامية التي تنتجها المؤسسة الرسمية أو التي تصدر عن الذين يتكلمون باسم الدين مهما كان موقعهم والذين يفتقرون إلى الحس النقدي، ولا يسمح لهم مستواهم الثقافي والعلمي عادة بغير التكرار والاجترار لما هو مثبت في الكتب الصفراء.

قلتَ إن “اعتبار نص من النصوص، وخصوصا من النصوص القرآنية، قطعي الدلالة، من أكثر الأوهام شيوعا في الأدبيات المعاصرة”. واعتبرت أن تصنيف النصوص كانت له أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ كيف يمكننا أن نسقط هذا “التحليل” على آيات الإرث مثلا، لكونك تناقش هذا الملف في كتابك “البداهات الزائفة في الفكر الإسلامي”؟

ما قلتُه هو ما أقرته الدراسات اللسانية الحديثة بصفة ثابتة. ولن تجد فهْمًا واحدا أو تأويلا مجمَعا عليه لأيّ نص مكتوب، سواء كان نصا قرآنيا أو أدبيا. وربما كانت النصوص المقدسة أكثر من غيرها عرضة لتعدد التأويلات. إن قارئ النص يساهم في إنتاج المعنى، وإذ يفعل ذلك فإنه بالضرورة متأثر إن قليلا أو كثيرا بثقافته وبظروفه التاريخية التي تشمل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والغنى والفقر والحضارة والبداوة والعوامل النفسية وغيرها مما لا يدخل تحت حصر. وحين نطبق ذلك على آيات الإرث، فالملاحظ أولا أنها لا تتعلق بكل الحالات التي يتم فيها انتقال الثروة من المورث إلى الوارث، وأن أغلب الأحكام الفقهية الخاصة بالإرث مبنية على الاجتهاد والقياس لا على صريح النص. والملاحظ من جهة أخرى أن الاختلاف بين الفقهاء لم يزل قائما فيما يتعلق بمفهوم الكلالة، كما لم يزل قائما في مسألة أصولية أساسية وهي جواز نسخ السنة للقرآن أو عدم جوازه. وإذن، هل يَنسخ حديث “لا وصية لوارث” النص الذي يقر هذه الوصية ويذكر المنتفعين بها؛ بل ويندد بالذين يبدلون هذا المبدأ:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقا عَلَى المُتقِينَ، فَمَنْ بَدلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنمَا إِثْمُهُ عَلَى الذِينَ يُبَدلُونَهُ) (البقرة 2/180).

إلا أن المسألة في حاجة إلى أن توضع في إطار أوسع: هل المسلم المعاصر مُلزَم بمتابعة ما استقر عند الفقهاء والمفسرين، أو أن الخطاب القرآني متجه إليه مباشرة دون هذه الواسطة؟ إن كان الأمر على النحو الثاني فيمكنه اعتبار الآيات القرآنية المتعلقة بالإرث آيات توجيهية نحو العدل ودعم صلة الأرحام، وأنه يجوز عدم الالتزام بِحَرْفيتها نظرا إلى تغير الظروف والأحوال، مع مراعاة القيم التي كرستها تلك الآيات.

دعنا نبقى في موضوع المرأة والتراث والفقه، ونتحدث عن إفاداتك حول الحجاب. وجدتَ أنه “لا يوجد في النص القرآني برمته ما يتعلق بشعر المرأة من قريب أو من بعيد”؛ لكن فرضه ما زال ينطلق أساسا من تغطية النساء لشعورهن.. من له مصلحة في أن يظل ما اعتبرته “فهما كلاسيكيا” هو السائد حول الحجاب حتى اليوم؟

فرضُ تغطية النساء لشعورهن بما سمي “الحجاب الشرعي” بدأتهُ جماعة الإخوان المسلمين منذ منتصف القرن الماضي دون أن يلقى صدى يذكر، سواء في المجتمع المصري أو في سائر المجتمعات الإسلامية؛ حتى قامت الثورة الإيرانية سنة 1979 وتولى الخميني الحكم، فأقام الجمهورية الإسلامية، وكان فرض الحجاب على الإيرانيات من أبرز شعاراتها. ولعبت المزايدة على التدين بين الشيعة والسنة دورَها، فكان الالتقاء بين الإيديولوجيا الشيعية والإيديولوجيا الوهابية والإيديولوجيا الإخوانية على حساب المرأة، وكل واحدة منها لا تنظر بعين الرضا إلى خروج المرأة إلى الفضاء العمومي: الملالي الشيعة يريدون الاستئثار بالحكم ولا يسمحون لأية فئة اجتماعية أخرى، ولا سيما النساء، بمقاسمته، والأسرة السعودية حليفة أحفاد محمد بن عبد الوهاب وضيق أفقه، ولها من عائدات النفط ما تستغني به عن عمل النساء خارج البيوت، وذلك بالاستنجاد بالعمالة الأجنبية، وحركة الإخوان المسلمين ومن لفّ لفّها من حركات الإسلام السياسي سجينة سلفيتها البدائية ولا تفقه شيئا في حركة التاريخ وقواعد العمران. فلا غرابة أن تجد النزعة السلطوية والذكورية التي غذتها تلك الإيديولوجيات مُتنفسها في المرأة وأن يكون فرض الحجاب عليها من أوكد علاماتها، باعتبارها السبيل إلى التحكم في المجتمع برمته. وتلك النزعة ليست خاصة بالمجتمعات الإسلامية، إلا أنها تبرز بالخصوص في المجتمعات ذات النمط الإنتاجي التقليدي وتنتشر بين الفئات المهمشة وكلما كانت التنشئة الاجتماعية والثقافة السائدة والمصالح السياسية ملائمة لذلك الانتشار. ومن هنا، كانت تغطية النساء لشعورهن في الغرب تختلف في مدلولها عما هو منتشر في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، إذ هو عند النساء اللاتي يعشن في الغرب وسيلة لإثبات الذات أكثر مما هو تطبيق لتعاليم دينية، مجهولة لدى أغلبهن.

من ناحية أخرى، اعترفتَ بأن الفقه أدى في تاريخ الحضارة الإسلامية وظيفة تنظيم الحياة الاجتماعية. هل يعني هذا أننا في الزمن الحالي نحتاج توقيعا يتجاوز أفق الفقه كتدبير للمؤسسة المجتمعية بوصفها “مؤسسات بشرية تاريخية نسبية”، كما قلت؟

إن ما أتت به العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ حوالي قرنين هو نزعها للقناع الذي كان يحجب طبيعة المؤسسات المجتمعية، إذ كانت هذه المؤسسات مبررة تبريرا دينيا ويعيشها أفراد المجتمع بصفتها من إملاءات القوى الغيبية، وهي إذن عديمة الصلة بالزمان والمكان، ولا سبيل إلى التنكر لها أو مناقشتها مجرد النقاش. وإذ تبينت في عصرنا الراهن على حقيقتها وأنها بشرية تاريخية فإن القوانين الوضعية هي التي حلت محلها وأصبحت البرلمانات هي التي تشرع القوانين وتغيرها عند الحاجة وحسب موازين القوى في المجتمع وتُصدرها باسم الشعب. ولذا، فلم تعد ثمة حاجة البتة إلى الفقه فيما يخص أبوابه المتعلقة بالمعاملات، وصارت هذه الأبواب علامات على الماضي ولا حاجة لغير المختصين إلى معرفة أحكامها أصلا. ولك في أحكام الرق والفيء والغنيمة المفصلة في المدونات الفقهية أبلغ مثال على عدم صلاحيتها في عصرنا.

يعني اليوم الحاجة إلى من تصفهم بـ”المتصرفين في المقدس” أو “ممثلي الإرادة الإلهية”، أو “موظفي الله” لم تعد بتلك الحدة.. ومن، إذن، سيشرح الدين للمؤمنين ويبسطه لهم.. أقصد الدين كفعل إيماني ينتمي إلى الفرد ضمن علاقة عمودية وليس شيئا آخر؟

ينبغي أن ننتبه إلى أن المعرفة عموما والمعرفة الدينية خصوصا كانت مقصورة على فئة ضيقة جدا في المجتمع، هي التي تحسن القراءة والكتابة. ولذا، كان عامة الناس محتاجين إلى الذين تتوفر لديهم هذه المعرفة. وقد تغيرت الآن هذه المعطيات تغيرا جذريا، فعمت إلى حد بعيد معرفة النصوص المكتوبة، بما فيها النصوص الدينية، بفضل الطباعة وشيوع الكتب والجرائد والمجلات وانتشار التعليم، وصارت المعلومات في العقدين الأخيرين متوفرة لعموم الناس على شبكة الأنترنيت. وفي رأيي أن الوضع الحالي مناسب للحرية الفردية والمسؤولية الشخصية اللتين تتميز بهما الرسالة المحمدية. ولا حاجة لدى المسلمين إلى الوسائط الذين قد يُحتاج إليهم في ديانات أخرى. وفي هذه الحالة يكون دور الأسرة والمدرسة دورا محوريا، فهما المؤسستان اللتان تقع على عاتقهما مسؤولية غرس القيم الإسلامية الأساسية دون أن يكون لأحد، أيا كان، حق الوصاية على ضمائر المؤمنين. ينبغي التأكيد على أن التمييز الذي عبر عنه الإمام الشافعي بين “المكلفين في أنفسهم”، أي عامة المسلمين، و”المكلفين في أنفسهم وفي غيرهم”، ويقصد الفقهاء وعلماء الدين، أن عهد هذا التمييز قد ولى وانقضى ولم يعد مقبولا في المجتمعات الديمقراطية أو التي تسعى إلى إرساء هذه الديمقراطية.

في أوروبا المسيحية ظل مفعول رجال الدين مشهودا في حياة النصرانيين، رغم أن هذه الدول تفصل مبدئيا الديني والروحي عن السياسي. ما تعليقك؟

نسمع ونقرأ عادة أن الفكر الإسلامي في أزمة؛ ولكن الحقيقة أن المسيحية، اليوم، في أزمة لعلها أعمق من الأزمة التي يعيشها المسلمون. كما أن اليهودية في أزمة منذ أن استغلتها الإيديولوجيا الصهيونية، اللادينية في منطلقها. وفعلا، فابتعاد مواطني أوروبا الغربية عن المسيحية بفرعيها الرئيسيين، أي الكاثوليكية والبروتستانية المعتدلة، ظاهرة لا تنكر، وتتجلى بالخصوص في انخفاض نسبة المعمدين وتقلص أعداد القسيسين وضآلة المواظبين على حضور القداس وغيرها. وفي المقابل يلاحظ انتشار التيار المسمى “إنجيليا”، ولا سيما في أمريكا وإلى حد ما في أمريكا الجنوبية وفي إفريقيا السوداء؛ وهو تيار مسند من قوى رأس المال المعولم وأقصى اليمين، وتنتشر في أوساطه أشكال التدين الغارقة في الميثية وفي الوثوقية الخانقة. على أن الفصل بين الديني والروحي يبقى دائما نسبيا، كما تدل عليه مثلا المعارك الدائرة حول الإجهاض واستعمال وسائل منع الحمل. وما زالت رواسب العقائد والممارسات الموروثة من الماضي فاعلة، على غرار الانبهار بالإسلام والخوف منه في الآن نفسه، وعلى غرار معاداة اليهود باعتبارهم حسب التعاليم الكنسية طيلة قرون المسؤولين عن قتل الرب. علاوة على أن الفصل بين الديني والسياسي أو الروحي والمادي نسبي وتختلف درجاته في النظم السياسية الأوروبية الحديثة، فملك بريطانيا على سبيل المثال ما زال يعتبر رئيس الكنيسة الأنجليكانية، وكذا في الدانمرك الملك أو الملكة هو/هي رأس الكنيسة اللوثرية، بينما ينص الدستور الفرنسي على لائكية الدولة واستقلال الديني عن السياسي.

“القيم الغربية” تعيش مخاضا حاسما في سياق انتعاش خطابات اليمين المتطرف وفورته سياسيا واستخدام مسألة الهجرة انتخابيا، يثير اهتمامنا في هسبريس أن نطلع على رأيك حيال صعود هذا النوع من اليمين “الإقصائي”؛ أو قل، كيف يمكن أن “يشوش” على القيم العلمانية وقيم الحداثة في الغرب المسيحي؟

أعتقد أن صعود اليمين المتطرف يعود بالأساس إلى فقدان أوروبا للمكانة المحورية التي كانت تحتلها في السياسة والاقتصاد على المستوى الدولي، لفائدة الولايات المتحدة الأمريكية ثم للصين ولقوى الجنوب الصاعدة كالهند وإندونيسيا والبرازيل. ومن العوامل الحاسمة في نزوع الغرب نحو اليمين انتقال السياسات الحكومية منذ عهد تاتشر وريغن من نظام الدولة الراعية وحماية الطبقات الدنيا إلى الخوصصة وتحكيم السوق وحدها في الاقتصاد، بما ينجر عن ذلك من تفاوت مجحف في الثروة وشعور الطبقات الضعيفة بالظلم والحيف وبالحنين إلى الماضي والخوف من المستقبل، فترتمي الطبقات الشعبية بصفة طبيعية في أحضان المحافظين.

أما صلة هذا الوضع بالقيم العلمانية وقيم الحداثة فليست جديدة، إذ كانت تلك القيم لا تنطبق في العقلية الغربية إلا على الغربيين أنفسهم وحسب، وكان سلوك الاستعمار دالا في حد ذاته على هذا التمييز؛ فلما احتاج التقدم الاقتصادي وإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليد العاملة غير الغربية ومثل المهاجرون أقليات ذات وزن، أصبح التمييز قائما داخل المجتمعات الغربية ذاتها لا بينها وبين مستعمراتها فقط. يضاف إلى ذلك فيما يخص المسلمين عنصر الرواسب من التعاليم الكنسية التقليدية التي أشرت إليها، والصراع التاريخي الذي طبع العلاقة بين المسلمين والمسيحيين منذ الفتح الإسلامي للمناطق التي كانت تتبع الكنيسة، وإبان الحروب الصليبية، ومحاولات التنصير في العهد الاستعماري.

حتى نعود إلى مجالنا التداولي، ألا يعتقد الشرفي أن ما يصفه باحثون بكونه “ردة فكرية” وانتصاب “التفكير الماضوي والنكوصي” يحتاج فعلا إلى “تنوير جديد خاص بنا” مثلما يرى الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني وأن يكون تنويرا حقيقيا نابعا منا وإلينا؟

دعني أؤكد أولا أن الردة الفكرية وانتصاب التفكير الماضوي والنكوصي أمر نسبي. ولست متأكدا من أنه هو الغالب على مجتمعاتنا في واقعها المعيش، أي هو فيما أرى ظاهرة إعلامية أكثر مما هو ظاهرة مجتمعية حين نحلل سلوك الأفراد والجماعات بمعزل عن الخطاب الذي يدعي تمثيلها والتعبير عن مواقفها. وإذا كان ذلك كذلك فإن مجتمعاتنا مهيأة حسب تقديري لتقبل كل ما يرتقي بها علميا وأخلاقيا واقتصاديا وسياسيا. وليس التنوير في نهاية التحليل إلا السعي نحو هذا الارتقاء والتخلص من الأوهام والمكبلات على اختلاف أنواعها.

وأن ينبع التنوير منا فيا حبذا؛ ولكننا لا نستطيع أن نستغني عن تجارب الآخرين والذين سبقونا ونجحوا في مسعاهم هذا. إننا جزء لا يتجزأ من البشرية وحركة الأفكار في الماضي كما في الحاضر والمستقبل لا توقفها الحدود الجغرافية ولا الاختلافات اللغوية والعرقية والدينية أو غيرها. وقد تبنى التنوير الغربي قيما تجاوز بها ما ورثته المجتمعات الغربية عن الحضارة الإسلامية، ومتى تبنينا هذه القيم الجديدة نستطيع بدورنا أن نطورها كما طور الغربيون القيم التي سبقت عصر التنوير. أما إذا تجاهلناها وتنكرنا لها فإننا لا نقدر على البناء، بصرف النظر عن مدى وفاء الغربيين أنفسهم لها، باعتبار أنها قيم كونية تستجيب لتطلعات البشر أينما كانوا.

قد يبدو ظاهريا أن مسألة التنوير هذه ستواجه تحديات، أنت مثلا تقول إنه “لا يمكن الفصل بين شيوع الأوهام في المجال الثقافي والديني خصوصا من جهة، واستفحال الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي والتأخر الحضاري من جهة مقابلة”. هناك ظاهرة أخرى صارت تكتسح “العالم العربي”، وهي الشعبوية التي تمثل “وجها” لشيوع الأوهام المذكورة. كيف تقرأها؟

الشعبوية مظهر من مظاهر الحكم الاستبدادي، إذ هي لا تعترف بالمؤسسات التي تمثل مختلف المصالح في المجتمع، من أحزاب ونقابات وبرلمانات وجمعيات وقضاء مستقل وإعلام تعددي، وغيرها من الوسائط بين الحكم والمجتمع. كما أن الشعبوية تستغل العواطف أكثر مما تتوجه إلى العقول وإلى دعم المواطنة الحرة والمسؤولة.

وهي إذ تركز على العلاقة العمودية المباشرة بين الحاكم والمحكوم تعمل على إضعاف العلاقات الأفقية بين المواطنين؛ فاكتساح الشعبوية للعالم العربي دليل في حد ذاته على تأخره التاريخي عن ركب الحضارة المعاصرة، وانتشارها في المجتمعات المتقدمة دليل على أزمة تلك المجتمعات وخوفها من التدحرج من مكانتها الأولى إلى مرتبة دنيا. ومهما كان الأمر فلا علاقة للإسلام دينا بهذه الظاهرة ولو أن تيارات الإسلام السياسي هي من بين التيارات التي تتبناها وتمارسها. ولا أرى أن الشعبوية من التحديات الرئيسية التي تواجه التنوير، وربما كانت في خدمة عدد من مقتضياته في بعض الحالات. فالعلاقة بينهما ليست علاقة عضوية أو سببية.

أريد أن نثير نقطة قد تكون لها أهمية، وهي حركات الإسلام السياسي، الذي اعتبرت في كتابك “مرجعيات الإسلام السياسي”، أنه مفهوم جديد نسبيا؛ غير أن انشغالك بالموضوع يبدو لافتا، ويطرح السؤال: هل كان هذا الاتجاه الجدي نحو تفكيك يقينيات هذا التيار السياسي “هما فكريا” أم “تصفية حسابات إيديولوجية” مع خصم سياسي؟

لقد كان هاجسي دوما هاجسا معرفيا هو محاولة فهم الواقع التاريخي والراهن فهما أعمق وأصح مما يتداول في الأدبيات غير العلمية. ولذا، فلست في بحوثي خصما لأحد، وليست لي حسابات أريد تصفيتها مع أي جهة، سواء كانت رجعية أو محافظة أو إصلاحية أو ثورية أو غيرها. وباعتبار أن الإسلام السياسي ظاهرة حاضرة في ذلك الواقع فمن الطبيعي أن أهتم بها لا اهتمام الخصم الإيديولوجي أو السياسي؛ بل اهتمام الباحث عن عوامل القوة والضعف في هذه الظاهرة، والمسكون بالوعي بأن الفهم الصحيح أو الأقرب إلى الصحة والموضوعية أفضل طريق لمعالجة مشاكل المجتمع معالجة ناجعة. ولكن هذه المعالجة من الناحية العملية شأن السياسي وشأن المواطن لا شأن المفكر والباحث.

يقول باحثون إنه بعد “الإخفاق” سياسيا تحول الإسلام السياسي إلى عنصر سائل بعدما كان “صلبا”.. هل ما زال هذا الموضوع في تقديرك يحتاج فعلا إلى جهد معرفي تحليلي أم أن ما يشبه “فشل المشروع الإسلامي”، حسب تصريحات باحثين، يجعله “ترفا فكريا”؟

المشتغلون بالصحافة، المكتوبة أو المسموعة والمرئية، هم الذين يصنفون المواضيع على الأساس الذي تشير إليه؛ لأن القراء ينتظرون معلومات وتحاليل ذات صلة مباشرة بما يحدث وبما يستجد. وليس هذا هو ما يشغل المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع ونظراءهم من الباحثين. وفي البحث لا توجد مواضيع تافهة ومواضيع جديرة أكثر من غيرها بأن تدرس، لأن العبرة في المنهج الذي يتوخاه الباحث والذي يمكنه من إلقاء الأضواء على ما هو غامض وملتبس ومغيب ومنسي، إلخ… ومن إبراز العلاقات الخفية بين العوامل الفاعلة وحتى الحاسمة. وإن ما قد يبدو إخفاقا أو تراجعا، سواء بالنسبة إلى الإسلام السياسي أو لغيره من مثل التيار القومي والاشتراكي الوحدوي، الخ.، لعله بمثابة النار تحت الرماد، لا تشتعل إلا متى كانت الظروف ملائمة لاشتعالها من جديد. ولهذا، فلا مجال للحديث عن الترف الفكري ما دام البحث ملتزما في كل الحالات بالموضوعية العلمية.

أريد أن نختم بالممارسة، هناك من يقول إن وجود هذه التيارات “ضروري” في مشهد سياسي يضمن الديمقراطية والتعددية السياسية، وإن وجودها يخدم النقاش السياسي والعمومي، وإنه من قبيل “التطرف العلماني” أن نحجر على حق هذا التيار. ما رأيك؟

وظيفة الباحث أن ينظر إلى التيارات الموجودة في المجتمع نظرة واقعية، وأن يتخلص قدر الإمكان من الآراء المسبقة، إيجابية كانت أو سلبية؛ فهذه التيارات إفراز للقوى والمصالح المتعددة وتعبير عنها وعن مستويات الوعي العمومي في الآن نفسه. ومن الطبيعي أن تحتوي كل المجتمعات على تيارات محافظة وأخرى تقدمية، بكل التنويعات التي تميز المحافظة والتقدمية؛ بل لا يخلو مجتمع ما من الهامشيين على يمينه وعلى يساره، وكلاهما قد يتبنى العنف وسيلة لتحقيق مآربه. ويقتضي وتوازن المجتمع ألا يحتل الرجعيون أو الثوريون، وخاصة متى كانوا يريدون فرض مذاهبهم بالقوة، وسط الميدان، فيتحكمون في مفاصل الدولة، وأن يكون الاعتدال والاعتراف بحق الآخرين في الوجود والتعبير والتنظيم هو سيد الموقف، وإلا اختل ذلك التوازن وحل الصراع محل التفاوض والتعاون. لنكن، إذن، حذرين في اتهام أي كان بالتطرف؛ فما هو تطرف عند البعض هو عين الوسطية عند آخرين. والمهم أن تكفل القوانين حقوق مجمل المواطنين وواجباتهم، وأن تكون للقضاء العادل والمستقل الكلمة الفصل في فض النزاعات السياسية أو غيرها ما دامت تعبر عن مواقفها تعبيرا سلميا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق