هل يمكن للعالم أن يكون غير متاح في زمن الانكشاف الكلي؟
يستحق كتاب Rendre le monde indisponible Hartmut Rosa”جعل العالم غير متاح” لهارتموت روزا، الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني، الاهتمام؛ لأنه يعرض، برؤية نقدية وفلسفية، تحليلا عميقا لعواقب التسارع الذي يطبع عالمنا المعاصر، محولا إياه إلى أداة للهيمنة والتوظيف، الأمر الذي يعمّق الشعور بالاغتراب ويزيد من وطأة التهديد الذي يحمله.
بهذا المعنى، يثير الكتاب تساؤلات حول العلاقة بين الإنسان والعالم مشيرا إلى تأثيرات هذا التسارع على هويتنا الشخصية والجماعية.
يقدم هارتموت روزا، من خلال تحليل دقيق للأنظمة الاجتماعية والسياسية، رؤى جديدة لفهم المأزق الذي يواجهه الإنسان المعاصر؛ مما يتيح لنا التفكير في إمكانيات بديلة لفهم كيفية تأثير الرأسمالية والحداثة على حياتنا وحاضرنا.
يظهر هارتموت روزا في كتابه “جعل العالم غير متاح” مرونة فكرية تجمع بسلاسة بين الفلسفة وعلم الاجتماع في سعيه إلى تأسيس ما يدعوه بـ”سوسيولوجيا العلاقة”، بوصفها أيضا “فلسفة للعلاقة” تروم الكشف عن الأبعاد الوجودية لعلاقة الإنسان المعاصر بالعالم؛ وهي أبعاد يحكم تصورها “العنصر الثقافي الأساسي الذي يحرك هذا النمط من الحياة، والذي نطلق عليه اسم الحداثة، بما هي أساس الفكرة والتطلع والرغبة في جعل العالم متاحا”. على أن العالم يكون متاحا بالنمو الاقتصادي، والتسارع التقني، والابتكار الثقافي، وهي الركائز التي تقوم عليها هذه الفلسفة.
يتحدد مفهوم إتاحة العالم عبر أربعة أبعاد رئيسية: أولا، جعله قابلا للمعرفة؛ ثانيا، تسهيل الوصول إليه؛ ثالثا، تمكين التحكم فيه؛ وأخيرا، تحويله إلى مورد قابل للاستخدام. ويتم تحقيق ذلك ضمن إطار مؤسسي شامل يتضمن تنظيم العلوم والمؤسسات، وتطوير التقنيات، وسن القوانين، وتنظيم الأجهزة السياسية والإدارية.
نقد مفهوم الإتاحة La disponibilité
يقدم هارتموت روزا في كتابه “جعل العالم غير متاح” نقدا عميقا لعلاقتنا بالعالم، موضحا كيف أن منطق الحداثة، المبني على الهيمنة والسيطرة، حوّل بيئتنا إلى “موارد متاحة”؛ مما أدى إلى اغتراب علاقتنا مع العالم، وأدى إلى تقويض إمكانية بناء علاقة أصيلة معه.
فقد أدت التطورات التكنولوجية والاقتصادية إلى تعزيز السعي المستمر إلى جعل العالم أكثر إتاحة، وهو ما يتجلى بوضوح في تعاملنا مع الطبيعة، والعلاقات الإنسانية، بل وحتى مع تجاربنا الذاتية. هكذا، يتم اختزال العالم إلى مجموعة من الموارد التي ينبغي استهلاكها أو السيطرة عليها أو تحسينها؛ مما يحرم الإنسان من قدرة الإحساس بالدهشة أو إقامة روابط حقيقية مع محيطه وواقعه. ولا يقتصر هذا التحول على الجوانب المادية فحسب، بل يشمل أيضا البعد الفكري والروحي. وأمام هيمنة المنطق المادي، يقيد الفرد ويحرم من القدرة على التفاعل مع العالم من حوله، إذ بدلا من أن يكون العالم مجالا للإلهام، يتحول إلى مجرد حيز قابل للتسخير، مما يعزز الشعور بالاغتراب ويحد من إمكانيات الفهم والتواصل الحقيقي مع الواقع.
عندما يتحدث هارتموت روزا عن “الإتاحة بوصفها مصدرا للاغتراب”، فإنه يشير إلى التحول الذي يحدث عندما يصبح العالم بأكمله متاحا للاستهلاك والتحكم. يقود هذا التحول إلى اختزال الطبيعة والإنسان والعلاقات الاجتماعية إلى مجرد موارد قابلة للاستخدام؛ مما يؤدي إلى فقدان القيمة الروحية والجمالية لتلك الموارد. من هنا، تؤدي الإتاحة إلى تهميش التجارب الذاتية، وتحويلها إلى أحداث سطحية لا تثير أي تأمل أو أدنى شعور.
بفضل هذه الوفرة المفرطة في الإتاحة، يفقد الإنسان ارتباطه العميق بالعالم من حوله. تتلاشى دهشته وتفاعله المباشر مع الواقع، ليصبح العالم مجرد شيء قابل للاستهلاك والسيطرة بطريقة آلية. ومن هنا، يختبر الإنسان حالة من الاغتراب، تباعده عن جوهر تجربته وعلاقته بالعالم، فيبقى محاصرا في فراغ روحي، مفصولا عن ذاته وبيئته. وبالتالي، يتلاشى التفاعل العاطفي والفكري مع الواقع، ليصبح الإنسان مجرد مراقب أو مستهلك لما يجري حوله، بدلا من أن يكون فاعلا يساهم في تشكيله. في هذا السياق، يجرد الإنسان من الأبعاد الروحية التي كانت تضفي على حياته معنى وعمقا. تتحول الحياة إلى سلسلة متتابعة من الأفعال والمواقف التي تفتقر إلى عمق التجربة وصدق الشعور، مما يضع الإنسان في مواجهة فراغ وجودي قاس، يحرمه من فرصة التأمل العميق والاستمتاع بعلاقة أصيلة وحقيقية مع الحياة.
الرنين La résonance بديلا للإتاحة
حينما يتحدث هارتموت روزا عن الرنين résonance باعتباره بديلا للإتاحة، فإنه يشير إلى نوع من العلاقة المترابطة التي يمكن أن يختبرها الإنسان مع العالم. على عكس مفهوم “الإتاحة” الذي يعبر عن توافر الأشياء والموارد لتكون تحت تصرف الإنسان بشكل دائم وقابل للاستغلال، فإن “الرنين” يمثل تفاعلا أكثر أصالة وثراء مع الواقع. يركز الرنين على تجربة التفاعل المتبادل بين الذات والعالم، حين لا يكون الإنسان مجرد مراقب أو مستهلك، بل يختبر نوعا من الانسجام والتواصل العاطفي والفكري مع محيطه.
يتطلب الرنين التزاما حقيقيا وتفاعلا عميقا يتجاوز الاستهلاك السطحي، ليشمل استجابة فاعلة للمحفزات التي يبعثها العالم، مما يعزز الإحساس بالمعنى والارتباط بالواقع. على عكس الإتاحة التي تسهم في الشعور بالاغتراب والانفصال عن الذات، يساهم الرنين في خلق علاقة أصيلة مع الحياة، تتيح للإنسان أن يشعر بأن له مكانا وقيمة في الكون.
وعلى هذا النحو، ليس الرنين فعل هيمنة أو إتاحة، بل هو علاقة يتحدث فيها العالم إلينا ونستجيب له بتفاعل حي. إنه تواصل دينامي يثري كلا من الإنسان والعالم.
هل “جعل العالم غير متاح” نقد لانحرافات الحداثة؟
نعم، بالإمكان اعتباره كذلك، حين يتناول بالتحليل التحولات التي طرأت على علاقتنا بالعالم في ظل التقدم التكنولوجي والعولمة الاقتصادية.
إن الحداثة، التي كانت في بداياتها تهدف إلى التحرر وتوسيع أفق التجربة الإنسانية، قد انحرفت إلى مسار يركز بشكل مفرط على التسارع المستمر والتوافر المفرط للموارد؛ مما أدى إلى اختزال العالم إلى مجرد شيء يمكن استهلاكه والسيطرة عليه. ولا يقتصر هذا التوجه على التقنيات والأنظمة الاقتصادية فحسب؛ بل يمتد أيضا إلى طبيعة العلاقات الإنسانية والتجارب الذاتية، وقد غدت سطحية وموجهة نحو الكفاءة والإنتاجية. ورغم ما توفره هذه التحولات من تيسير مادي، فإنها أدت إلى اغتراب الإنسان عن جوهر تجربته الذاتية وعن علاقته بمجتمعه.
ما العمل، إذا، لمقاومة المنطق الذي يجعل العالم متاحا؟ لهذا المنطق أسس فلسفية تتحدد من خلال ما يلي:
أولا: الرنين باعتباره بديلا للتوافر بما أنه يمثل علاقة تفاعلية ودائمة بين الإنسان والعالم، وتجربة متبادلة ذات عمق عاطفي وعقلي. من هنا أهمية استعادة الارتباط بالعالم من خلال تواصل حقيقي يشعر فيه الإنسان بأنه جزء من هذا الكون، لا مجرد مراقب أو مستهلك.
ثانيا: الاستماع والتأمل بوصفهما قيمة أساسية: في سياق مقاومة الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية، تبرز ضرورة العودة إلى قيمة الاستماع والتأمل. معنى ذلك أن العالم يجب ألا يختزل إلى سلع أو فرص استغلالية؛ بل ينبغي أن يعاد تقديره باعتباره فضاء غنيا بالمعنى والتجربة التي تتطلب من الإنسان التوقف والتفاعل بوعي مع محيطه.
ثالثا: البحث عن العمق بدل السرعة: بدلا من الانشغال المستمر بالإنتاجية والسرعة، ينبغي للإنسان أن يسعى إلى اكتشاف المعنى والعمق في تجاربه الحياتية.
رابعا: إعادة بناء العلاقات الإنسانية الأصيلة: تستلزم مقاومة منطق التوافر العودة إلى الذات والتواصل مع الآخر على نحو أصيل. لا يمكن للأفراد استعادة علاقتهم الحقيقية بالعالم إلا من خلال بناء روابط إنسانية تقوم على الاحترام المتبادل والوعي التام بوجودهم فيه.
الحداثة والسيطرة على العالم
إذا كانت الحداثة ترمي إلى جعل العالم متاحا، فإن ذلك ينبع من فكرة جوهرية تقوم على تسخير العالم لإشباع الرغبات وإرضاء النزوات. وقد أعادت الحداثة تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم على المستويين الثقافي والمؤسسي، حيث أصبحت قائمة على إخضاعه وتطويعه وفق إرادة الإنسان. وبناء على هذا المنطق، “كل ما يظهر يجب أن يفهم ويتحكم فيه ويستحوذ عليه ويحول إلى مورد قابل للاستفادة”. ومن هنا، تعتمد المجتمعات الحديثة في ديمومتها على نظام مؤسسي واقتصادي وسياسي وتقني يفرض الحاجة إلى نمو متواصل. أما البعد الثقافي لهذا النهج فيتمثل في تكريس قناعة عميقة في التجربة النفسية والعاطفية للإنسان، مفادها أن السعادة تتحقق من خلال القدرة على السيطرة على موارد العالم والتوسع في استغلالها.
وعلى هذا الأساس، يعتبر التسارع ظاهرة معقدة يمكن تفكيكها إلى ثلاثة أبعاد أساسية: أولها التسارع التقني الذي يتجلى في عمليات الاتصال، والنقل، وإنتاج السلع، وتوزيعها، واستهلاكها. من هنا، يؤدي التسارع التقني إلى إعادة تشكيل النظام الزمني-المكاني للمجتمع، حين يتم تصور الزمن باعتباره زمنا مكثفا يفضي إلى تقليص المسافة المكانية بفعل سرعة وسائل النقل، والاتصال، والتواصل.
على خلاف التسارع التقني الذي يحدث داخل المجتمع، يتجلى تسارع التغير الاجتماعي باعتباره “تسارع المجتمع ذاته”؛ ذلك أن إيقاع التغيرات الاجتماعية نفسها بات يتغير، مما يؤدي إلى تقلص الحاضر في أبعاد عديدة، منها السياسي، والمهني، والعائلي مثلا.
بينما يتحدد البعد الثالث في تسارع إيقاع الحياة، ويختلف عن النوعين السابقين من التسارع من حيث إنه يركز على سرعة وضغط الأفعال اليومية. يتمثل هذا التسارع في تجربة الأفراد الاجتماعية التي تتسم بالشعور المستمر بنقص الوقت، والسعي المرهق إلى إنجاز المزيد من المهام في وقت أقل؛ ما يولد حالة من الإرهاق المستمر.
من هذا المنظور، يعكس التسارع التقني والاجتماعي وإيقاع الحياة تحولا في بنية الوجود الإنساني وفهم العالم. لا يقتصر هذا التسارع على النمو المطرد للتكنولوجيا أو توسع شبكات التواصل الاجتماعي؛ بل يمتد إلى إعادة تشكيل مفاهيم الزمن والفضاء والوجود نفسه. في هذا الإطار، يواجه الإنسان إيقاعا سريعا للحياة يجبره على التكيف المستمر مع التحولات التي يشهدها المجتمع. كما أن التكنولوجيا، بأشكالها المتعددة، لم تعد مجرد وسائل تسهم في تسهيل الحياة؛ بل أصبحت عنصرا محوريا في تشكيل فاعلية الإنسان وتوجيه مساراته.
كيف يؤثر تسارع إيقاع الحياة والتحولات المجتمعية على توازن الإنسان في علاقته بذاته والعالم من حوله؟ وهل يمكن للإنسان أن يحافظ على توازنه الداخلي في ظل هذا التغير المستمر؟ وكيف يمكنه مواجهة هذا الإيقاع المتسارع دون أن يتحول إلى مجرد جزء من منظومة شاملة، تجرفه نحو اللامبالاة أو تقوض قدرته تدريجيا على التأمل والتوجيه الذاتي؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
0 تعليق