من الشاشة إلى الواقع .. هل تعيد السينما صياغة تصور المشاهدين للعنف والقتل؟

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هل تجعل جماليات العنف مشاهد القتل مألوفة لدى المشاهد السادي؟

بمجرد الضغط على أفيش فيلم أو سلسلة في منصة مشاهدة مدفوعة يظهر التنبيه: لغة بذيئة، مخدرات، عنف جنسي، عري، عنف…

هذه بعض أوصاف المسلسلات والأفلام الأكثر مشاهدة في المغرب على منصة “نيتفليكس” في شهر غشت 2024 مثل سلسلة (A Good Girl’s Guide to Murder صدرت في 1-7- 2024 من إخراج دولي ويلس وتوم فوغان). وحسب إحصاءات “نيتفليكس” المُرفق بأفيش هذا المسلسل وبطاقته التقنية تطوّع 97 بالمائة ممن شاهدوا المسلسل بنصح غيرهم بالمشاهدة. مع هذا التصويت الديموقراطي الإلكتروني يصعب على الأفلام التي لا تصور العنف المنفلت الصمود في سوق التسلية الدموية.

تعرض أفلام الرعب تنافسا شرسا دمويا، صار السكين والفأس والسيف والمسدس أكسسوارات أساسية في أفلام ومسلسلات تعرض عنفا منفلتا وحشيا يشدّ المتفرج. صارت الجريمة مطلعا وطُعما لصيد المتفرجين.

لقد تغيرت النظرة للعنف، أي الحرب، الجريمة، الاغتصاب والاعتداء… فبدلا من تصنيف العنف كفوضوى وخراب وضرر أو عبث، صار أداة وحيدة فعالة لتحقيق الأهداف وحل المشاكل وحسم الصراعات. في سياق كهذا سينظر المشاهدون إلى تطبيق العدالة كمشكل وليس كحل.

تحاكي سلسلة “لعبة الحبار” (2021 كتبها وأخرجها هوانغ دونغ هيوك) أجواء حياة الأشخاص الغارقين في الديون. يموت المشاركون ويسيل منهم دم قان. الماكياج دموي فظيع لكن الواقع أفظع. تعلن “نيتفليكس” أن الموسم الثاني من السلسلة سيعرض في 26-12-2024. كما تعلن عن قرب عرض سلسلة مقتبسة من رواية ماركيز “مائة عام من العزلة”، والبداية ببنادق فصيلة الإعدام في ماكاندو.

بم يفسر الناقد السينمائي الإقبال الذي تلقاه أفلام ومسلسلات العنف المنفلت؟ وكيف يقارب القسوة بين الواقع والتمثيل؟

تصنف الصحافة قتل شخص في الواقع بأنه “حادث مؤسف”. ويسمى مقتل شخص في فيلم فنا.

يحاكي العمل الفني الواقع، يقول جون ساذرلاند: “إن تجربتنا في الدراما تتطلب أيضا مهارات معينة عندنا، بوصفنا نظارة، تتعلق بكيفية استجابتنا، وتقدرنا للأداء والحكم عليه”. (مختصر تاريخ الأدب، ترجمة محمد درويش، دار الكتب العلمية، بغداد 2018، ص 63). يبدو أن هنالك تطابقا بين توقعات المشاهد الدموية وما يقدم له من أطباق عنف، لذا يشعر بالمتعة.

هذه هي السادية.

يبدو أن المخرجات الفنية العنيفة تطابق طبيعة مدخلات التلقي لدى الجمهور في تصوره للعالم. من يفهم العالم كغابة سينتظر من بطل السلسة أن يكون عنيفا قاتلا. وحدهم الأنبياء المسلحون ينتصرون.

يبدو أن هذا المشترك معلوم لمخرجي أفلام العنف. فكيف يدبر المخرج شهوة الجمهور الذي يريد أن يرى ويسمع ويعلم؟

جواب المخرج: “لتكن كل لقطة لكمة في وجه المتفرج”.

والنصيحة للمخرج مارتن سكورسيزي صاحب التحفة الدموية “عصابات نيويورك” 2002.

دل ذلك على أن المتفرج عدو وهذا يهندس الحبكة مهما كانت “الحبكة التي يختارها مدراء الإنتاج” (جدل التنوير شذرات فلسفية، ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، ص 146).

يعرف مدراء الإنتاج والمخرجون طبيعة الجمهور الذي يستجيب عاطفيا لا منطقيا. خطابيا، تذم الأخلاق السائدة العنف والرد على الشر بالشر، وتوصي بالجنوح للسلم وتقديم الخد الأيسر لمن صفع الأيمن. يبدو أن هذه الأخلاق التي سماها نيتشه “أخلاق الضعفاء” لا مكان فيها في السينما بدليل أن المشاهدين تقبلوا تحول البهلوان (الجوكر) إلى قاتل ومصاص دماء. يبدو أن هذا العنف يكشف واقعا. تجري المشاهدة باستثمار الخبرات والمعارف والأحكام المسبقة، وهي تشرعن ما يرى من عنف وتشرعنه.

تحقق مسلسلات القتل المتسلسل أعلى المشاهدات، تظهر المشاهد عنفا مباشرا مثل قطع أذن أو كي شخص… من شاهد قطع أذن زوجة الأمير التي حبلت في غيابه في مسلسل “الفايكنغ” (2013 تأليف مايكل هيرست وإخراج كل من يوهان رينك، وهيلين شاف)؟

رأى الجمهور الأذن في يد الجندي ورأى رأس الأميرة بدون أذن فارتفعت أصوات الاستحسان. عبر الشهود الحاضرون عن فرحهم بالعقاب الجسدي فانتقلت عدوى الفرح إلى مشاهدي المسلسل.
هكذا تُصنع ألفة العنف الدموي الفني المصور لامبالاة تجاه العنف الحقيقي مثل الحرب والجوع.

هل أصبح المشاهدون ساديين يستمتعون بالقتل؟ هل هذا المشاهد الذي يستمتع بالدم شخص سوي؟ نعم، إنه شخص سوي بدليل أنه ليس وحده الذي يشعر بالملل إن لم يسل الدم… تفترض السيكولوجيا السائدة أن الحسود سادي يستمتع بعذاب من يكره دون الشعور بالذنب.

العنف مسلم به في السياسة اليوم، تجاوزت ممارسات زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين (1961- 2023) كلّ حد، وقد جنى الزعيم الدموي ما فعل.

كيف ينعكس العنف على مزاج مشاهديه؟ هل تجعل جماليات العنف وفرجته مشاهد القتل مألوفة لدى المشاهد السادي؟ كيف سيحقق هذا العنف الكاتارسيس الأرسطي؟

يُمكن فهم العنف الطبقي الذي مارسه الأسياد لإخضاع أقنانهم في حقول العصور الوسطى، لكن عنف الأشباه فيما بينهم في المدينة المعاصرة غامض الدوافع، إلا أن يكون العنف حاجة سياسية وفنية ووجدانية لدى البشر.

شخصيا، تعلمت في مقرر الفلسفة في البكالوريا أن القرن الثامن عشر هو عصر الأنوار والحرية، وأن المؤمن المستتر إيمانويل كانط (1724-1804م) كان هو سيد المرحلة، وقضيت عمري أمجد عصر الأنوار (باعتباره خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه) وأريد عيشه ثم اكتشفت أن هذه مجرد حكاية مثالية. اكتشفت أن الماركيز دو ساد الشهواني (1740- 1814م) كان حينها أشهر من إيمانويل كانط العقلاني حسن النية. كان الدرس الفلسفي المثالي مفصولا عن سياقه الثقافي والاقتصادي، لذا قل مفعوله في فهم الوضع البشري الحالي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق