الكراوي يستشرف المستقبل الممكن للشريحة الشبابية في المنطقة المتوسطية

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يرى إدريس الكراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة، أن اقتصادات ومجتمعات منطقة البحر الأبيض المتوسط تتميز بخمس حقائق أساسية تتعلق بالدينامية الديموغرافية المتباينة، والعجز في استيعاب التحولات العميقة الجارية، وعدم ملاءمة المؤسسات لتأطير الشباب؛ إضافة إلى حكامة غير متجاوبة مع طموحات الشباب، ونموذج معياري متجاوز لفهم مختلف قضاياه الراهنة.

وسلط الكراوي، ضمن مقالة تحليلية توصلت بها هسبيرس، حول موضوع “شباب البحر الأبيض المتوسط والمستقبل الممكن”، الضوء على الفجوة بين احتياجات الشباب والأنظمة الحالية، ما أدى إلى انتشار الإحباط والتمرد بينهم، لافتا الانتباه إلى أن “بناء مستقبل ممكن للمنطقة يعتمد على تأهيل الشباب لقيادة التحولات التنموية الكبرى، مثل الانتقال المناخي والرقمي والطاقي”، ومشددا على أن “التحولات يجب أن تترافق مع نماذج تنموية جديدة تعتمد على شمولية أكبر وإشراك حقيقي للشباب، مع التركيز على التوازن الذكي في التنمية”.

كما دعا رئيس منتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي إلى إعادة النظر في مفهوم البحر الأبيض المتوسط كفضاء للتفكير، الذي يتطلب تعبئة الذكاء الاجتماعي لكافة الفاعلين، وفي مقدمتهم الشباب، مشيرا إلى أن “الرؤية الجديدة تعكس التطورات المعاصرة واحتياجات الأجيال الجديدة، مع التركيز على بناء هوية متوسطية مشتركة وقيم اجتماعية وإنسانية تجمع شعوب المنطقة”.

وكحل لهذه التحديات يقترح الكراوي تطوير أنماط جديدة للتعاون بين دول المنطقة، مستندة إلى الرأسمال اللامادي وتعزيز التربية والابتكار، بهدف إنشاء شراكات تستجيب للتحديات العالمية، مؤكدا أن “إعادة بناء فضاء البحر الأبيض المتوسط يمكن أن تساهم في صياغة مستقبل مشترك يعود بالنفع على شعوبه، مع ضرورة استيعاب دروس الماضي لتجنب تكرار إخفاقاته”.

نص المقالة (*):

يعرف الحقل الشبابي في منطقة البحر الأبيض المتوسط خمس حقائق رئيسة تتطلب عدة تغيرات لبناء المستقبل الممكن.

أولا: الحقائق الرئيسية

تتميز اقتصادات ومجتمعات منطقة البحر الأبيض المتوسط بخمس حقائق رئيسية، تكمن في دينامية ديموغرافية متباينة، وعجز كبير في معرفة التحولات العميقة الجارية حاليا، ومؤسسات غير ملائمة لتأطير الأجيال الجديدة من الشباب، وحكامة لا تتقاطع مع احتياجات وتطلعات وطموحات الشباب، ونموذج معياري لفهم قضايا الشباب متجاوز.

1. دينامية ديموغرافية متباينة

وفقا لمعطيات تقرير المخطط الأزرق الصادر في أكتوبر 2020 يبلغ عدد سكان منطقة البحر الأبيض المتوسط 522 مليون نسمة، وهو ما يعادل 6,7 بالمائة من العدد الإجمالي لسكان العالم، 38 بالمائة منهم بشمال المنطقة و62 بالمائة بجنوبها وشرقها. ويتشكل 157 مليون شخص، من العدد الإجمالي لهؤلاء السكان البالغ 522 مليون شخص، من فئة الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، موزعين على 48 في المائة يقطنون بجنوب المنطقة، و27 و25 في المائة على التوالي بشرقها وشمالها. وفي المقابل ثمة 65 مليون شخص يقطنون بالمنطقة يبلغون من العمر 65 سنة وأكثر، من بينهم 65 بالمائة بالشمال، و16،19 بالمائة على التوالي بالشرق والجنوب.

ووفقا للمصادر ذاتها سيستمر هذا التوجه إلى غاية سنة 2100. فبحلول هذا الأفق ستبلغ نسبة السكان القاطنين بجنوب وشرق المنطقة أزيد من 75 بالمائة، فيما ستصل نسبة القاطنين بالشمال إلى 25 بالمائة فقط.

وبفعل القرب الجغرافي والتاريخ المشترك فإن هذه الوضعية ستكون حاسمة على جميع مناحي البناء المستقبلي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، من ضمنها العيش المشترك، وما يترتب عليه من حركية الأشخاص والأفكار ورؤوس الأموال والسلع والخدمات، وضغط على الحاجيات الأساسية؛ علاوة على الأمن والسلم الإقليميين وارتباطهما بالازدهار المشترك وحكامة التحولات الكبرى، وبصيانة مصالح الأجيال القادمة، وبخاصة في مجالات مصيرية بالنسبة للشباب، كالتربية والتكوين والتشغيل والحماية الاجتماعية والادماج الثقافي، فضلا عن العيش في مجتمعات تضمن الحرية والكرامة والعدالة، بما فيها العدالة المناخية والرقمية.

2. عجز كبير في معرفة التحولات العميقة الجارية حاليا

تكمن الحقيقة الثانية في التغييرات التي تشهدها بوتيرة متسارعة للغاية مجتمعات المنطقة على الصعيد الديمغرافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، والثقافي والمناخي والأمني والجيو-إستراتيجي. غير أن الجهود المبذولة لمعرفة وفهم العجز ومواكبة هذه التغييرات تحول دون استيعاب الأبعاد العميقة، الظاهرة والخفية، للتحولات الكبرى الناجمة عن هذه التغييرات.

إضافة إلى ذلك تسجل منطقة البحر الأبيض المتوسط استمرار العجز في مجال الإلمام بالحقائق العميقة للتحولات الجارية، رغم الجهود المبذولة من قبل الباحثين والخبراء.

3. مؤسسات غير ملائمة لتأطير الأجيال الجديدة من الشباب

تتمثل الحقيقة الثالثة في رفض الغالبية الكبرى من شباب المنطقة الاندماج ضمن الإطارات الاجتماعية والسياسية التقليدية، إذ يطورون فضاءات ومواقع نوعية جديدة وغير نمطية للعيش، من شأنها الاستجابة لتطلعاتهم واحتياجاتهم حسب اعتقادهم، بما في ذلك التعبير الرمزي عن مشاعرهم.

ويعزى هذا الأمر، وفق الأنثروبولوجي ريمي لوفو Rémy Leveau، إلى “كون مجتمعات منطقة البحر الأبيض المتوسط أضحت مجتمعات استهلاك، في حين ظلت المؤسسات والإطارات الاجتماعية والمؤسسية، التي يفترض منها تأطير هذه المجتمعات، متشبثة بتقاليد طويلة وممارسات للتسوية تدبرها نخب تنتسب إلى أجيال لا تواكب الحقائق الجديدة ذات الصلة بالشباب”.

وتفسر هذه الحقيقة على نطاق واسع الأسباب التي تجعل مؤسسات تأطير الشباب في المنطقة غير ملائمة لتمكين هذه الشريحة المجتمعية من قيادة عملية بناء نماذج تنموية شاملة وتشاركية ومستدامة، تساهم في الأداء الإجمالي للمنطقة برمتها وفي تثمين الطاقات المبدعة المتوفرة لدى شبابها.

4. حكامة لا تتقاطع مع حاجيات وتطلعات وطموحات الشباب

تتجلى الحقيقة الرابعة في التفاوت والفجوة القائمة بين التغييرات التي تعرفها مجتمعات المنطقة وأنماط حكامتها. وأفضى هذا التفاوت إلى تطور أشكال جديدة من السخط والتمرد والاحتجاج تقودها فئة شبابية مناهضة لمؤسسات المجتمع، بما فيها الأسرة والمدرسة والأحزاب السياسية والإدارات العامة للدولة.

ويكمن الدرس الأساسي المستخلص من هذه الوضعية في كوننا لم نعد قادرين على التأمل في مجتمعات المنطقة في الوقت الحالي أو الإمساك بزمام أمورها، عن طريق إعادة إنتاج مقاربات ونماذج الماضي. وفي هذا الإطار يُنظر إلى جميع العناصر التي تعكس دعوة الشباب إلى إجراء تغيير حقيقي إزاء حكامة المجتمعات والاقتصادات الخاصة بهم.

جدير بالذكر هنا أن شريحة الشباب بدأت تطعن في جدوى جميع المؤسسات، بما فيها الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني والمدرسة والأسرة والمقاولات والنقابات والإدارات العامة للدولة، فضلا عن أماكن العبادة والمواقع الروحية والمقدسة.

جميع هذه العناصر تفسر ضرورة إجراء تحديث مستعجل ومعمم للفكر والمؤسسات والسياسات العمومية والحكامة إذا كنا نرغب في تفادي تعرض شباب المنطقة للطوباويات المدمرة، وتوفير شروط لخلق مشاريع مجتمعية وتشاركية وشاملة وسلمية، تتطلع إلى المستقبل وتبعث على أمل حقيقي لشباب المنطقة، وقادرة على مدهم برؤية مجتمعية ومقروئية سياسية بوسعها تحويل الواقع الحالي للشباب، بصفتهم فاعلين في التغيير، وعلى نحو يتقاطع مع تطلعاتهم في مجال الحرية والعدالة والإدماج والمشاركة والتماسك الاجتماعي والتضامن والكرامة. غير أن تحقيق هذه الغاية يقتضي إعادة التفكير جذريا في النموذج المعتمد لفهم قضايا الشباب.

5. نموذج معياري لفهم قضايا الشباب متجاوز

أخيرا، تتجسد الحقيقة الخامسة في كون السياسات العمومية ذات الصلة بالشباب بجميع مكوناتها تُستمد من معيار لا يتوافق مع تنوع المجال الشبابي بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، والمشاكل المعقدة المحيطة به.

من الناحية الفعلية لا توجد فئة شبابية بالمنطقة، إنما نتحدث عن شباب مندمجين في إطارات اجتماعية وطنية وترابية متفاوتة، ويعانون من مشاكل خاصة بهم. ونتحدث كذلك عن فئة من الشباب يطرحون بدورهم مشاكل خاصة مرتبطة بالاندماج والشمولية وتدبير الصراع الاجتماعي.

وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أنه توجد سبع فئات من الشباب وأنماط من تدبير علاقاتهم مع مختلف مكونات المجتمع والدولة بالمنطقة المذكورة:

فئة أولى اختارت ممارسة النشاط السياسي باعتباره إطارا لتجسيد همومها وانشغالاتها وتطلعاتها وآمالها، ورغبتها في تغيير أوضاعها وأوضاع مجتمعها.

فئة ثانية اختارت العمل في نطاق منظمات المجتمع المدني في المجالات المتعلقة بالتزاماتها المدنية، كحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، والبيئة والثقافة والأمن الإنساني.

فئة ثالثة اختارت العلم والمعرفة والبحث العلمي لتثمين إمكانياتها الابتكارية.

فئة رابعة فضلت ممارسة النشاط الفني في تمظهراته المتنوعة، كالكتابة والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية، والمسرح والسينما والرياضة، بهدف صقل مواهبها وتجسيد كينونتها داخل المجتمع.

فئة خامسة طورت المبادرة المقاولاتية لتفجير طاقاتها من خلال ممارسة أنشطة اقتصادية قصدالمساهمة في خلق الثورة الوطنية.

فئة سادسة ارتأت الانخراط في الحقل الديني والروحي للبحث عن إجابات للأسئلة المطروحة في حياتها الاجتماعية اليومية ضمن سعيها لمعرفة حيثيات وجودها.

ثم أخيرا ثمة فئة سابعة، هي الأكثر أهمية ديموغرافيا، تعيش على هامش المجتمع بسبب وضعية اجتماعية ناجمة عن الإقصاء والهشاشة، تفرز شعورها بالحيف والتهميش؛ وما يترتب على ذلك من تفشي كافة أشكال الانحراف، لاسيما ممارسة الأنشطة غير المشروعة والمخدرات وأشكال الهجرة السرية والإجرام ومظاهره المتطرفة.

انطلاقا من هذه الجوانب المعقدة والوقائع فما هي السبل المتاحة لشباب البحر الأبيض المتوسط من أجل بناء مستقبل ممكن؟.

ثانيا: المستقبل الممكن

ثمة ثلاثة مسارات رئيسية يظهر أنها تتوافق مع العالم الذي تتطور من خلاله شريحة الشباب في المنطقة المتوسطية، وتتلاءم مع ثلاثة نماذج أساسية للتغييرالممكن، وتشمل (1) إعادة النظر في البحر الأبيض المتوسط كفضاء للتفكير، و(2) تأهيل الشباب لقيادة النماذج التنموية الجديدة وتحويلها الى رافعات لإنجاح الانتقالات المستقبلية، ثم (3) ابتكار أنماط جديدة للتعاون بين بلدان المنطقة بما يتلاءم مع معطيات النظام العالمي الجديد، مع وضع الرأسمال اللامادي في صلب جيل جديد من الشراكة.

1. إعادة النظر في البحر الأبيض المتوسط كفضاء للتفكير

في الواقع لا يظهر أن رؤيتنا الحالية للبحر الأبيض المتوسط، باعتباره قطبا للتفكير والحياة المشتركة، تتوافق مع الطبيعة المعقدة الحالية لاقتصادات ومجتمعات المنطقة، أو مع التحولات التي تعرفها الاقتصادات والمجتمعات، أو مع الاحتياجات والطموحات والتحديات الجديدة للأجيال الجديدة من مواطنات ومواطني المنطقة في الحقبة الحالية من القرن الحادي والعشرين.

فبالنسبة لهؤلاء المواطنات والمواطنين ثمة سؤال أساسي يُطرح في هذا الباب: ماذا يعني البحر الأبيض المتوسط بالنسبة لهم حاليا؟ وماذا يعني أن تكون اليوم مواطنا متوسطيا بالنسبة لشباب المنطقة؟ هل يعني الانتماء إلى فضاء جغرافي والى تاريخ وتراث مشترك؟ هل يعني ممارسة نماذج عيش معززة بأشكال خاصة لتلبية الحاجيات في تمظهراتها من أنماط الطبخ واللباس والفنون والموسيقى والطقوس الروحية، وكذا أنماط الحياة الاجتماعية اليومية، كتنظيم الأسرة والزواج والطلاق والفكاهة وطقوس الموت؟ هل يعني بناء صرح مشترك للقيم وترسيخ الروابط الاجتماعية والعيش المشترك في المنطقة؟ هل يُقصد به تطوير نماذج لمجتمعات واقتصادات ونسج علاقات مع بقية دول العالم وتتعايش فيها جميع الأديان والثقافات والحضارات بالمنطقة؟ أم يُقصد به العيش ضمن مصير مشترك تمليه تحديات المستقبل المشتركة؟.
على ضوء الطبيعة المعقدة لهذه الإشكاليات يتعين تغيير جذري لرؤيتنا ولمفهومنا للبحر الأبيض المتوسط ولقضية الانتماء الى هذا الفضاء.

ويكتسي هذا التغيير ضرورة أساسية إذا كنا نرغب في مسايرة الوقائع الجديدة لمنطقتنا، لاسيما تلك المتعلقة بشبابها وبمشاكلهم واحتياجاتهم وهمومهم وتطلعاتهم وطموحاتهم وآمالهم، واستنادا إلى رؤاهم بشأن المستقبل.

زيادة على ذلك نواجه اليوم جيلا جديدا من التحديات التي تحتم علينا تعبئة الذكاء الاجتماعي لكافة الفاعلين والقوى الحية بمجتمعات البحر الأبيض المتوسط، وفي طليعتهم الشباب.

ويعد هذا الشرط الأساسي بمثابة دعوة لإلمام أفضل بالوضع الحالي للمنطقة وباحتياجاتها وتحدياتها ومستقبلها المحتمل. ويتعلق الأمر، في هذا الصدد، بأحد المفاتيح الأساسية لأي حل دائم وفعال لحالات انعدام الأمن الجديدة والأجيال الجديدة من الحروب التي تلوح في الأفق وتتربص بالمنطقة برمتها، ما يعكس أهمية المسار المستقبلي الثاني.

2. تأهيل الشباب لقيادة النماذج التنموية الجديدة وتحويلها الى رافعات لإنجاح انتقالات المستقبل

علاقة بهذا الموضوع ثمة إجماع على أنه يتعين على مجتمعات البحر الأبيض المتوسط بناء نماذج تنموية جديدة أكثر شمولية وتشاركية، وتروم التوفيق بين إنتاج الثورة الموزعة بشكل أفضل والحفاظ على الموارد بواسطة الإنتاج والاستهلاك وممارسة الأنشطة التجارية والتعاون بطريقة مختلفة.

وسيمكن هذا التغيير في النماذج التنموية شباب المنطقة من لعب دور فاعلين في تحولات المستقبل الكبرى، على غرار الانتقال المناخي والرقمي والطاقي والاقتصادي والمجتمعي.

ويتعلق الأمر بضمان توازن ذكي بين مستوى ونوع وماهية التنمية بالمنطقة، عبر مساهمة الشباب في إنجاح هذه التحولات.

وإذا كان هذا المنظور يتيح الإجابة عن سؤال أساسي يتعلق بأي نوع من المجتمعات نرغب العيش فيها غدا بالمنطقة، فإنه يسائلنا بشأن طبيعة المشروع المجتمعي الذي نرغب في بنائه مع شبابنا ومن خلالهم ومن أجل رفاهيتهم في مستقبل البحر الأبيض المتوسط.

3. ابتكار أنماط جديدة للتعاون بين بلدان المنطقة بما يتلاءم مع معطيات النظام العالمي الجديد

تحتاج بلدان البحر الأبيض المتوسط إلى ابتكار أنماط للتعاون تتقاطع مع الحقائق الجديدة للنظام العالمي الحالي، وتجعل من الرأسمال اللامادي للمنطقة رافعة جوهرية لبناء جيل جديد من الشراكة بين شمالها وجنوبها وشرقها.

ويعني ذلك وضع التربية والتكوين والابتكار في صلب التعاون بين هذه البلدان مستقبلا من جهة، والاهتمام بجودة المؤسسات وبناء صرح للقيم المشتركة باعتبارها ركائز أساسية لحكامة المجتمعات المتوسطية مستقبلا.

ويتعلق الأمر بأوراش ضخمة وتحديات هائلة لا يمكن كسبها إلا من خلال إرساء برامج إقليمية للتبادل مخصصة لشباب المنطقة، تشكل دون غيرها القاعدة البشرية الدائمة لبناء مستقبل المنطقة.

تنبثق من جميع العناصر المشار إليها أعلاه خلاصتان رئيسيتان:

تكتسي الخلاصة الأولى طبيعة إستراتيجية، وتنبع من قناعة خاصة مفادها أن منطقة البحر الأبيض المتوسط تشكل في واقع الأمر، واستنادا إلى الدراسات القديمة والأرشيفات والأبحاث، أصل الثقافات والأديان في العالم، وقلبها وذاكرتها وفضائها، جاعلة من المتوسط المهد الحقيقي للحضارات الكبيرة، وجوهر مكوناتها وسبب ديمومتها، واستمراريتها وتجديدها.

ويطرح هذا الأمر سؤالا ذا أهمية كبيرة، يمكن صياغته على الشكل التالي:

ألا تشكل منطقة البحر الأبيض المتوسط لبنة أساسية لمستقبل محتمل للعالم الجديد المراد بناؤه في إطار منطقة كبرى تشمل إفريقيا وأوروبا والعالم العربي، واستنادا إلى جهد جماعي مشترك تبذله الدول والمجتمعات المتوسطية، ويتوخى إعادة بناء البحر الأبيض المتوسط للقرون القادمة عبر إعداد شباب المنطقة باعتبارهم أبرز فاعلي الغد لبناء هذا القطب الجديد؟.

ضمن هذا المنظور تأتي الخلاصة الثانية والمتمثلة في إيلاء أهمية أكبر لإعداد شباب المنطقة بهدف ضمان توازن ذكي وهام بين الأبعاد الرئيسية الثلاثة لكينونتهم الاجتماعية والمجتمعية.

وتجسد هذه الأبعاد التحديات الثلاثة للمجتمعات المتوسطية والمتمثلة في:

امتلاك مكونات الحداثة الجديدة.

تقوية الحكامة الديمقراطية للمجتمعات المتوسطية.

ثم إيجاد إجابات مناسبة للاحتياجات المشروعة ذات الصلة بالجوانب الروحية والدينية والوجودية، وتلك المرتبطة بالنزاعات الترابية الموروثة عن الماضي؛ وذلك بهدف كسب المعركة المشتركة ضد التعصب والراديكالية والأصولية والعنصرية ومعاداة السامية وحالات الانطواء على أساس الهوية، بالإضافة إلى الإغراءات الشعبوية المدمرة للروح الأصلية لشعوب البحر الأبيض المتوسط.

تلكم شروط الإشكالية الحاسمة والمعقدة التي يتعين على الدول والمجتمعات المتوسطية العمل على إعادة التفكير فيها بمعية شباب المنطقة وعن طريقهم ومن أجل رفاهيتهم، وذلك بهدف مقاربة العالم الجديد الذي يلوح في الأفق في مجموع المنطقة المتوسطية بشكل أفضل.

من هذا المنطلق سيتمكن الشباب من المساهمة غدا في الكتابة المشتركة لصفحة جديدة من للفضاء المتوسطي الجديد.

وتحقيقا لهذه الغاية يحتاج شباب المنطقة إلى أتوبيات جديدة (nouvelles utopies) وإلى حلم جديد، فيما تحتاج دول المنطقة إلى طموح مشترك على قاعدة مشروع متوسطي جديد يتوجب على النخب المتوسطية تصوره وابتكاره. غير أن نجاح هذا الطموح يتوقف على استخلاص العبرمن إخفاقات الماضي، واستنتاج الدروس من التجارب والصراعات الموروثة عن التاريخ، بغية رسم ملامح المستقبل الممكن للمنطقة، مستقبل يعود بالنفع على شعوبها وشبابها.

(*) محاضرة لإدريس الكراوي بجامعة بادوفا الإيطالية يوم الجمعة 20 شتنبر 2024.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق