اليوم أكملت لكم دينكم

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لن أتحدث في هذا المقال عن المسيرة الزمنية الكبرى التي قطعها الدين الإلهي من يوم كان فطرة إلى أن أصبح نصوصا، ثم قرآنا يتلى آناء الليل و أطراف النهار.

ولن أتحدث كذلك عنه في مسيرته الصغرى التي قطعها كقرآن في زمن يقدر بثلاث وعشرين سنة، كانت السورة فيه تنزل مرة، وتنزيل الآية، أو الآيات مرة أخرى، إلى أن تم نزول هذا الكتاب الكريم قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

إنما الذي أريد أن أتحدث عنه في هذا المقال كجواب عن مزاعم أولئك الذين وجدناهم مرة ينادون بأن هذا الدين قد تجاوزه العصر، ومرة أخرى يهتفون بوجوب تغيير أحكامه التي أصبحت لا علاقة لها بالواقع. يقول أحد المفسرين ناطقا بما يروج على ألسنتهم: “إن تفاوت النسبة بين هذا العصر، وعصر نزول القرآن، يوجب النسخ لشرائع الإسلام، ووضع قوانين أخر، قابلة للانطباق على مقتضيات العصر الحاضر… ويقول: إن الإنسان قد بلغ إثر مجاهداته الطويلة الشاقة، مبلغا من الارتقاء، والتكامل المدني، لو قيس إلى ما كان عليه، قبل عدة قرون، كان القياس بين نوعين متباينين، فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر، بالحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى؟”

أقول إنما الذي أريد أن أتحدث عنه كجواب عن هذه المزاعم الكبرّ هو ما تنطق به هاتان الآيتان: الأولى ما تتحدث عنه من شكاية الرسول الأكرم قومه إلى رب العزة، حيث قال: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾[الفرقان 30]، هجروه لأنهم لم يفقهوا مقاصده التي يرمي إليها، أو لأن الشهوات التي جاء القرآن لإخراجهم منها، قد غلبتهم، فصرفتهم عن التدبر فيه…

أما الآية الثانية وأعني بها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة 3] فهي التي سأحاول التركيز عليها بقصد الكشف عن ماهية هذا القرآن الذي جاء إكمالا للدين الإسلامي في مسيرته الكبرى.

والبداية ستكون بإلقاء هذه النظرة السريعة على معاني الكلمات الواردة في الآية وأولها كلمة “اليوم” الذي تم فيه إكمال الدين قرآنا، والذي اختلف المفسرون في مدلوله، فقال بعضهم: إن المراد به زمان ظهور الإسلام ببعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال آخرون إن المراد من اليوم زمن الحال الصادق بطائفة من الزمان، فإن العرب يطلقون اليوم على زمن الحال، والأمس على الماضي، والغد على المستقبل قال الشاعر:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم

وقال آخرون: إن المراد باليوم يوم عرفة من حجة الوداع، كما ذكره كثير من المفسرين ووقع ترجيحه، وبه ورد بعض الروايات.

وثانيها كلمتا الإكمال، والإتمام وهما متقاربان. قال الراغب: كمال الشيء حصول ما هو الغرض منه، وقال: تمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه.

وفي إكمال الدين يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ” مثلي، ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها، وأحسنها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون، ويقولون، لولا ‏موضع اللبنة! ‏فأنا اللبنة، ‏وأنا خاتم النبيين” (رواه البخاري) ولعل ‏المراد باللبنة هي ما تقوم عليه العقيدة من البراهين العقلية، والشريعة على المصالح والقيم الأخلاقية. ثم بين بقوله “وأنا خاتم النبيئين”، أنه لا لبنة يمكن أن تضاف للقرآن من بعده

كذلك يقول الإمام الزمخشري في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ ‏[الآية] :”أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال، والحرام، والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس، وأصول الاجتهاد، “وأتممت عليكم نعمتي” بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، وأتممت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدين والشرائع، كأنه قال : “اليوم أكملت لكم دينكم، وأتمتم عليكم نعمتي بذلك، لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام” (الكشاف).

أما الإمام الشاطبي فنجده قد ذهب بعيدا في بيان معنى الإكمال الديني حيث قال: “إن القرآن فيه بيان كل شيء، فالعالم به على التحقيق، عالم بجملة الشريعة لا بعوزه منها شيء، والدليل على ذلك أمور:

منها النصوص القرآنية، كقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [الآية] وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ وقوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقوله: ﴿إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، يعني الطريقة المستقيمة ‏، ولو لم يكن فيه جميع معانيها، لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة.

ومنها ما جاء من الأحاديث والأثار المؤذنة بذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: “إن هذا القرآن حبل الله، ‏وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ‏ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد”. فقوله حبل الله بإطلاق، والشفاء النافع… دليل على كمال الأمر فيه…

ومنها أيضا أن علاقة السنة بالقرآن، لا تخرج عن كونها بيانا، قال الإمام الشاطبي: إن السنة راجعة في معناها إلى الكتاب في تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل 44]، فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية… ويرى انه لو كان في السنة شيء لا أصل له في الكتاب، لم يكن بيانا له. ولا يخرج من هذا، ما في السنة من التفصيل لأحكام القرآن الإجمالية، وإن كانت تتراءى أنها ليست منه كالصلاة المجملة في القرآن، المفصلة في السنة، ولكنا علمنا بهذا التفصيل أنه مراد الله في الصلاة التي ذكرها في كتابه مجملة.

ومنها التجربة، بمعنى أنا وجدنا علماء الأمة على امتداد التاريخ “ما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نص فيها” بل إنهم أجمعوا على انه “‏لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع”

وكذلك وجدنا الصحابة رضوان الله عنهم في معالجتهم العملية للوقائع المتوالدة باستمرار لا يخرجون عن خطاب الله، أو خطاب رسوله، أو ما يمكن أن يجمعوا عليه. “إن الوقائع التي جرت فيها فتاوى الصحابة وأقضيتهم ‏تزيد على المنصوصات زيادة لا يحصرها عد، ولا يحويها حد، فإنهم كانوا قانسين في قريب من مائة سنة، والوقائع تترى، والنفوس إلى البحث طلقة، وما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نص فيها، والآيات والأخبار المشتملة على الأحكام نصا، وظاهرا، بالإضافة إلى الأقضية والفتاوى كغرفة، من بحر لا ينزف، وعلى قطع نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكل ما يعِنّ لهم من غير ضبط وربط وملاحظة قواعد متبعة عندهم، وقد تواترت من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حكم الواقعة من كتاب الله تعالى، فإن لم يصادفوه، فتشوا في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوه اشتوروا ورجعوا إلى الرأي”، فأنتجوا عند رجوعهم إلى الرأي ثروة فقهية لا تخرج عن مقاصد الله تعالى، وكأنهم بذلك كانوا يقولون: الأصول وإن كانت متناهية العدد ‏فهي “غير متناهية الجدوى والفوائد” (انظر: البرهان في أصول الفقه الإمام الحرمينن)

والسبب في ذلك يرجع إلى أنهم -كما يقول الإمام الغزالي- زاوجوا بين العقل والسمع، حيث كانوا يأخذون من صفو الشرع والعقل ‏سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاها الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد”، ‏فرأينا من خلال هذه المزاوجة، كيف تمتد آفاق الخطاب بامتداد العقل، حتى يصبح هو الرافد للخطاب، والخطاب هو الرافد للعقل والمسدد له، في كل الخطوات، ولم يخطر ببالهم يوما أن يسير العقل في درب غير درب الخطاب، ولا الخطاب في درب غير درب العقل، وبذلك حققوا استمرارية الشريعة، وخلافة الإنسان في الأرض”

مكانة ما يشرعه أولو الأمر من إكمال الدين

هذا وبالإضافة إلى ما سبق، فإنا مع ذلك نجد أمورا قد أوكلها الحق سبحانه إلى اجتهادات أولي الأمر، وذلك بجعلها أصلا من أصول شريعته، حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء 53]، ‏قال السيد محمد رشيد رضا: “إذا علمت أن اجتهاد أولي الأمر هو الأصل الثالث من أصول الشريعة، فاعلم أن اجتهادهم خاص في المختار عندنا بالمعاملات القضائية، والسياسية، والمدنية… وأنه ينبغي أن يبنى على قاعدة جلب المصالح وحفظها، ودرء المفاسد وإزالتها”

‏في تفاصيل هذا يذكر العلماء في الآية: أن إعادة كلمة “أطيعوا” تدل على تغاير الطاعتين، كأن تحمل الأولى على طاعة ما نزل الله من القرآن، والثانية على طاعة الرسول فيما أمر به باجتهاده”، كما يذكرون من الجهة الأخرى: أن عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول من غير تكرير العامل (أطيعوا) يدل على أنهما من جنس واحد، وأن طاعة أولي الأمر في اجتهادهم تحل محل طاعة الرسول في اجتهاده بعد وفاته، وأن هذه الطاعة ملزمة للأمة كافة، لا لعصمة أولي الأمر، فإن العصمة في الاجتهاد غير ثابتة للأنبياء بدليل عتاب الله تعالى لهم في الكتاب: ‏”فكيف يكون لخلفهم من أولي الأمر من المنزلة ما ليس لهم، ولكن لأن المصلحة لا تتحقق إلا بذلك” (تفسير المنار).

من هم أولو الأمر؟

‏ثم هم بعد الاستشهاد لما يشرعه أولو الأمر من أحكام في القضايا الطارئة المتحولة التي لا تصلح للثبات، يعمدون إلى تحديد من هم أولو الأمر الذين يتولون وضع مثل هذه القوانين، فيذكرون على سبيل الإجمال أنهم: “أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشؤون، وإدراك المصالح والغيرة عليها” (شلتوت).

وبتعبير آخر أكثر تفصيلا هم، كبار العلماء، ورؤساء الجند، والقضاة، وكبار التجار، والزراع، وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، ونابغو الكتاب، والأطباء، والمحامين التي تثق بهم الأمة في مصالحها وترجع إليهم في مشكلاتها حيث كانوا” (تفسير المنار) لأن” شؤون الأمة متعددة بتعدد عناصر الحياة، وأن الله قد وزع الاستعداد الإدراكي على الأفراد حسب تنوع الشؤون، وصار لكل شأن بهذا التوزيع رجال هم أهل معرفته، ومعرفة ما يجب أن يكون عليه” (شلتوت).

ثم إن هؤلاء الرجال هم الذين يجب على الأمة أن تعرفهم بآثارهم وتمنحهم ثقتها وتنيبهم عنها في نظمها وتشريعها، والهيمنة على حياتها، وهم الوسيلة الدائمة في نظر الإسلام لمعرفة ما تسوس به الأمة أمورها، مما لم يرد في المصادر السماوية الحاسمة. وأخيرا هم “أهل الإجماع” الذين يكون اتفاقهم حجة يجب النزول عليها والعمل بمقتضاها ما دام الشأن هو الشأن، والمصلحة هي المصلحة، حتى إذا تبدل الشأن وتغير وجه المصلحة، بتغير المقتضيات الحافة بموضوع النظر، كان عليهم أو على من يخلفهم إعادة النظر على ضوء ما جد من ظروف ومقتضيات، وحل الاتفاق اللاحق محل الاتفاق السابق، وكانت الأمة في الحالتين خاضعة لما أمرها الله بطاعته، فقد أقام من رحمته رأي أولي الأمر فيما ترك من التشريع العيني، مقام تشريع كتابه، وتشريع رسوله فيما وردا فيه، وسوّى بين الثلاثة “كل في دائرته في عموم وجوب الطاعة والامتثال” (شلتوت)

ما حقيقة هذا الأمر الذي يشرع له أولو الأمر الأحكام

ثم يذكرون من جهة أخرى أن المراد بالأمر، الذي يعمل فيه أولو الأمر نظرهم، قاصر على القضايا الدنيوية التي ترتبط بالسلم أو الحرب، كالتجارة، والصناعة، والزراعة، والصحة، والسياسة، والأمور الحربية مستدلين على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾[النساء 83]

ويقول السيد محمد رشيد رضا: “إن اجتهاد أولي الأمر خاص في المختار عندنا بالمعاملات القضائية والسياسية والمدنية دون العبادات والأحكام الشخصية إذا لم ترفع إلى القضاء، وأنه ينبغي أن يبنى على قاعدة جلب المصالح وحفظها، ودرء المفاسد وإزالتها” (تفسير المنار) ويقول أيضا: إن المراد بالأمر أمر الأمة الدنيوية” لا أمر الدين المحض الذي مداره على الوحي دون الرأي، إذ لو ‏كانت المسائل الدينية كالعقائد، والعبادات، والحلال والحرام مما يقرر بالمشاورة، لكان الدين من صنع البشر، وإنما هو وضع إلهي ليس لأحد فيه رأي، لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بعده”، فمثلا: إن مسائل الأمن والخوف، والأموال، والإدارة، والسياسة الداخلية والخارجية… هي التي يكون لآراء أولي الأمر فيها مجال على امتداد المكان والزمان، لأنها تختلف باختلاف أمور الأمة الاجتماعية”، ولأنه ‏في مثل هذه القضايا وردت الخطابات التالية، قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[آل عمران 159] وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾[ الشورى 41] وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عن كرم الله وجهه، رواه سعيد بن المسيب قال: “قلت يا رسول الله: الأمر ينزل بنا، لم ينزل فيه القرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين –قال أو العابدين- من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد”، وفي مثلها كان النبي صلى الله عليه وسلم، يستشير أصحابه “فكان يستشير السواد الأعظم منهم، وهم الذين يكونون معه، ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين، بالأمور التي يضر إفشاؤها، فاستشارهم في بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب، فلم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون، ثم الأنصار بالموافقة، واستشارهم جميعا يوم أحد أيضا” وهكذا كان يستشير في أمر من أمور الأمة، إلا ما ينزل عليه الوحي ببيانه، فينفذه حتما، واقتفى أثره الخليفتان أبو بكر وعمر”. (تفسير المنار)

في الرد على مزاعم العلمانيين

وأخيرا ‏هل يمكن الالتفات إلى أولئك الذين يزعمون أن القرآن قد تجاوزه العقل، وأن الأحكام التي جاء بها يجب أن يعاد فيها النظر، بل يجب أن تنسخ، لأنها لم تعد قابلة للإنطباق على المقتضيات الجديدة التي جاء بها العصر، وذلك لمخاطبتهم بأسلوب غير الأسلوب الذي جئنا به في هذا المقال.

أعتقد أن ذلك ممكن، ومن ثم نقول: إن مثل هذا الإشكال الذي طاف بالأذهان، إنما نجم عند العلمانيين من كونهم قد قصروا النظر على ما يحيط بالإنسان من الظروف المتحولة، وذهلوا عن أن للإنسان غرائز ثابتة، وروحيات خالدة، لا تمسها يد التغيير، ولا تستغني عن قانون ينظم اتجاهاتها، وتشريع يعدلها ويصونها عن الإفراط والتفريط – لو تدبروا ذلك في الإنسان لوصلوا إلى أن الإنسان مركب من مشخصات تكوينية أبدية، وأن القوانين الراجعة إلى هداية الفطرة وتعديلها تثبت على جبين الدهر ما دام الإنسان إنسانا. (انظر كتاب: الإلهيات على هدي الكتاب والسنة، للشيخ حسن مكي العاملي (495/2).

وتعبير آخر وهو للرسام جان أوغست آنغر وهو يتحدى عبادة الجديد الذي يمكن أن تكون شديدة التخريب للفنون فيقول: “لا أريد أن أسمع بعد اليوم، ذلك الشعار السخيف: “نحن بحاجة إلى الجديد، وبحاجة إلى مجاراة عصرنا، فكل شيء يغير، وكل شيء قد تغير” كل ذلك سفسطة، هل الطبيعة تتغير؟ هل يتغير الضوء والهواء؟ وهل تغيرت أهواء القلب البشري منذ أيام هوميروس؟ إن من الجنون أو الكسل أن نزعم أن في وسعنا الاستغناء عن دراسة القديم أو أدب الإغريق والرومان. فذلك مذهب الذين يريدون أن ينتجوا من غير أن يعلموا، وأن يعرفوا من غير أن يتعلموا. (عالم المعرفة ع 129/134).

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق